من يدعي أن وثائق ويكيليكس بلا مصداقية لن يصدقه أحد، لكن لا أحد يدعي أن مصداقية الوثائق هي في دقة التوثيق العلمي أو في مستوى قرار محكمة، فهي عبارة عن تسريبات لوثائق تتراوح مصداقيتها من مستوى وجهة نظر جاسوس أو دبلوماسي متواضع القدرات..
إلى وثيقة دقيقة تتضمن وقائع عالية المصداقية، وما بين هذين المستويين تتفاوت درجة المصداقية بين الاحتمال وشبة التأكيد. فهناك وثائق مجتزأة من سياقها، وهناك وثائق وقعت في التضليل دون علم كاتبها أو ناقلها.
فإلى وقت قريب كان موقع ويكيليكس يشبه موقع ويكيبيديا حيث يمكن لأي شخص إرسال موضوع وتحريره. ويستطيع المسربون إرسال وثائق مجهولة وغير قابلة للتقصي ويمكنهم النقاش العلني وتحليل الوثائق والتعليق على مدى مصداقيتها، ويمكنهم مناقشة التفسيرات وسياق الأحداث والصياغة بالتعاون مع الناشرين. ويمكن للمستخدمين كتابة توضيحات على التسريبات من ناحية خلفية الموضوع والسياق، وتقدير الأهمية السياسية للوثائق.
هذا أدى إلى انتقادات مبكرة قبل التسريبات الأخيرة، من عدم وجود سياسة للتحرير تعمل على إقصاء المادة الجيدة من الرديئة. إلا أن إدارة ويكيليكس تقول إنه بعد إجراء مراجعة داخلية لم يعد ممكنا للمستخدمين نشر تعليقات إضافية على الوثائق.
وردا على المخاوف من احتمال حصول تسربات مضللة أو مزورة، تذكر ويكيليكس أنها لم تفرج عن أية وثيقة غير موثقة وأنه يتم تقييم الوثائق قبل الإفراج عنها. وحسبما أوضح أسانج (مدير ويكيليكس) فالوثائق المقدمة يتم دراستها من قبل مجموعة من خمسة مراجعين، من ذوي الخبرة في مجالات مختلفة مثل اللغة أو البرمجة، والذين يحققون أيضا في خلفية المسرب إذا كان من المعروف هويته. ويمتلك أسانج القرار النهائي حول تقييم الوثيقة. ولا يعرف حالياً من ينوب عنه في ظل اعتقاله.
لا يمكن لهذه التطمينات السطحية أن تقنع أحداً بسهولة، فالثغرات هائلة جدا.. إلا أننا مع ثقافة الإنترنت دخلنا عصراً جديداً من الإعلام الشعبوي بشكل عام، ومن الإعلام السياسي في موضوعنا هذا، حيث لم يعد ثمة شيء قابل للستر وانعدمت الثقة بالمؤسسات السياسية التقليدية، مما يتطلب مرحلة انتقالية لتعديل السلوك الدبلوماسي الدولي، فتسريبات ويكيليكس أصبحت حدثاً يؤرخ له.. فما قبله كانت مرحلة من التاريخ انقضت، وما بعده صارت مرحلة جديدة ستتغير معها الدبلوماسية الدولية وليس الأمريكية فقط..
وليس هذا فحسب بل إن مؤسسات الإعلام التقليدية هي بدورها تعيش مرحلة انتقالية.. إنها الشبكة العنكبوتية أسقطت الحدود بين الواقعي والوهمي.. بين عالم التحقق والعالم الافتراضي.. بين الشأن العام والخاص.. إنه فضاء يجمع التناقضات في لحظة واحدة في مكان تخييلي واحد. هذا سيجعل الإعلاميين قلقين من تحويل العالم العمودي (التسلسل الهرمي) إلى عالم أفقي من شبكات الاتصال.. فالإعلام الآن يتشكل عبر الإنترنت في شبكة اتصالات واحدة تضم ملايين الأفراد عبر القارات.. نعم، هذا سيجعل العالم أكثر انفتاحاً، لكنه أيضا أكثر تيهاً، فكل شركات الإعلام تائهة لا تعرف ماذا تصنع مع تفجر المعلومات من كل حدب وصوب؟ وكيف يمكن تحليل ملايين الوثائق السرية؟ وإلى أين ستقودنا موجة التكنولوجيا الرقمية؟
ردا على مثل هذا السؤال يجيب سيرجي براين أحد مؤسسي جوجل: «الإجابة بسيطة، الناس مع المعلومات الصحيحة يتخذون قرارات أفضل لأنفسهم. والناس مع الإعلان التجاري السليم سيشترون الأشياء المناسبة لهم».
ويوضح جف زوكر المدير التنفيذي ل(إن بي سي) العالمية: إنك حين تصبح رئيس تحرير أو مديراً تنفيذياً في العصر الرقمي ستشعر بالحماسة الهائلة والخوف الشديد! زوكر قلق بسبب سرعة انهيار بعض الشركات، وبتأرجح بعضها الآخر بين الصعود والهبوط.. وهو قلق بسبب سرعة ظهور الموضة التي تسبب هوساً يستحوذ على الناس لفترة قصيرة. وأكثر ما يخشاه هو تخريب القيم من خلال الابتكارات التكنولوجية المتسارعة دون هوادة.. خشية من أن تدع ذلك التسارع يصعقك حد الشلل.. يقول إن الخشية ليست لأني سأفقد الفرصة (في مؤسسة إعلام تقليدية)، بل من أن النموذج التجاري سيتحطم بينما نحن نبتكر ونتوه.. إنه ما أطلق عليه زوكر «تيه المبتكرات»!
وكان صاحب فكرة موت ما بعد الحداثة وصاحب نظرية الحداثة الرقمية (Digimodernism) أو الحداثة المزيفة (Pseudomodernism) الناقد الثقافي البريطاني آلان كيربي يرى أن هناك ما هو أكثر من هذا التحول. فالشروط التي تجري بها والتي يتم بها تصور: السلطة، المعرفة، الواقع، الزمن.. كلها فجأة تغيرت، وغيرت طبيعة الكاتب والقارئ والنص، والعلاقات بينهما. فالمتلقي المستفيد من النص أصبح جزئياً أو كاملاً مؤلف النص. المتفائلون قد يرون في ذلك إضفاء الطابع الديمقراطي على الثقافة، والمتشائمين يشيرون إلى تفاهة طاحنة وفراغ في المنتجات الثقافية.
ويوضح كيربي أن الحداثة الرقمية تتجلى بامتياز كظاهرة ثقافية في الإنترنت. كل الأعمال الثقافية أصبحت غير مستقرة وسريعة الزوال.. ومن الصعب للغاية الحفاظ على شكلها الأصلي. إن ثقافة تقوم على هذه الأشياء هي ثقافة لا تمتلك ذاكرة ولن تكوِّن إرثاً ثقافياً مثل ذلك الذي ورَّثته الحداثة وما بعد الحداثة.. إنها غير معادة الإنتاج وسريعة الزوال، لذا فثقافة الحداثة الرقمية شبه فاقدة للذاكرة، وهكذا فالأعمال الثقافية في الوقت الراهن هي بلا إحساس تجاه الماضي أو المستقبل.
في حين أن ما بعد الحداثة تضع الواقع في حالة استفهام، فإن الحداثة الرقمية تُعرِّف الواقع ضمناً بأنه أنا نفسي، الآن، أتفاعل مع نصوصه (أي الواقع). فما يطرح في الإنترنت يتحول إلى واقع أيا كان افتراضيا. وهكذا، الحداثة الرقمية تقترح أنه مهما فعلتْ فإنه هو الواقع، والنص الحداثي الرقمي قد يزدهر حقيقياً بالظاهر على شكل غير معقد: وثائق فقاعية مع كاميرات محمولة باليد تعطي المشاهد وهم المشاركة.
مئات الآلاف من الوثائق السرية سربتها ويكيليكس وستصل إلى الملايين قريبا، فماذا ستعمل الذاكرة معها؟ كيف سيصنف المحللون درجها مصداقيتها، وهل يكفي عدد المحللين لهذا الكم الهائل اللا متناهي، ليس من ويكيليكس فقط بل من غيرها أيضا؟ الإعلام الرقمي لم يغير الإعلام تكنولوجياً فقط، بل غير العالم الذي نعرفه.. وهذه التقنية ليست شيئا ملموساً، بل مجردا.. إنها المعرفة التي ستغير عقولنا وسلوكنا!