لم يعد لعربة تهويد الصهاينة للأرض الفلسطينية كلها أي كوابح. ومن الأدلة الواضحة على زوال هذه الكوابح ما حدث من تهويد متسارع جداً في الضفة الغربية المحتلة من فلسطين - بما فيها القدس ومسجدها الأقصى الذي بارك الله حوله-
في هذا العام، الذي تؤذن شمس أيامه بالأفول. ولقد بدت تلك الأدلة جلية في خطوات صهيونية كلها صلف وغطرسة أملتهما، وأوحت بهما، استكانة مخزية من نفوس قيادات عربية ومسلمة أدمنت تجرع كؤوس الذل والمسكنة، ومساندة غير محدودة لدولة متجبرة مستكبرة قام أساس وجودها أول ما قام على إرهاب بشع قضى على استئصال السكان الأصليين، تماماً كما قام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. وهذا التطابق في النشأة لكل من الدولة الأمريكية والكيان الصهيوني يجعل من غير المستغرب ارتباطهما إستراتيجياً ومسيرة أداء. بل إن كون عدد من زعماء أمريكا متصهينين وأشد يهودية من اليهود أنفسهم يجعل من غير المستغرب أن تستجيب أمريكا لمطالب الصهاينة المتعددة مع أنها المتحكمة في كثير من شؤون العالم في الوقت الحاضر.
ومن الأدلة الجلية للخطوات الصهيونية، التي تسارعت في هذا العام بالذات، لتهويد فلسطين إزالة أسماء أمكنة كثيرة مكتوبة باللغة العربية وإبدالها بأسماء عبرية، واعتبار المسجد الإبراهيمي تراثاً يهودياً، وهدم كثير من البيوت العربية في القدس، وتوسعة منطقة حائط البراق، أو ما يسميه الصهاينة الهادفون إلى طمس هوية فلسطين العربية الإسلامية حائط المبكى.
لقد كان من بين المقولات الشيطانية المنافية للحقيقة والواقع مقولة رددها عدد من الشخصيات الصهيونية أو المتصهينة، بدءاً من القرن التاسع عشر الميلادي، وهي أن فلسطين - كما ادعوا زوراً وبهتاناً - أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. وهذه المقولة الشيطانية تريد، مكراً وخداعاً للرأي العام الغربي، أن تظهر فلسطين بمظهر أرض خالية من السكان - متجاهلة وجود أهلها الأصليين المواصلين لسكناها أباً عن جد منذ آلاف السنين-، وأن تلك الأرض - لذلك - يجب أن تصبح وطناً لكل يهودي يقدم إليها من كل فج في العالم وأرضاً لكيان عنصري لا يشك منصف في عداوته للإنسانية.
ولقد بدأ تمهيد الطريق إلى تهويد فلسطين، إنساناً وأرضاً، فور وضعها - لسوء حظ أمتنا- تحت انتداب الدولة البريطانية، التي هي إحدى الدول الشريرة ضد المسلمين بعامة والعرب بخاصة، وهي الدولة التي كان وزير خارجيتها، بلفور، صاحب الوعد المشؤوم، والتي يأتي في مقدمة صفاتها الواضحة في ميدان السياسة الخارجية المكر والخداع. وكان من أوضح علامات عداوتها للعرب والمسلمين أنها عينت صهيونياً أول مندوب سام لها على فلسطين، التي ابتليت هي وأهلها بذلك الانتداب.
في ظل الانتداب البريطاني الماكر المعادي للمسلمين والعرب بدأت تمهيد الطريق إلى تهويد فلسطين، كما سبق أن ذكر. وباحتلال الصهاينة لجميع الأراضي الفلسطينية - نتيجة حرب 1967م- اكتمل تمهيد تلك الطريق إلى تهويدها كلها. وها هي خطواتهم حثيثة لإكمال مشروعاتهم التهويدية الشيطانية بكل صلف وغطرسة. لقد كان للصهاينة هدف واضح عملوا - وما زالوا يعملون - لتحقيقه بتصميم وإتقان، يستوي في العمل للوصول إليه من تُسمّيهم أجهزة إعلامنا العربية الخداعة، أو المنخدعة في تقليد إعلام أعداء أمتنا، أحزاب اليمين وأحزاب اليسار من الصهاينة، تماماً كتساوي رؤساء هذه الأحزاب في ارتكاب الجرائم البشعة ضد الفلسطينيين والعرب، رجالاً ونساء.. وشيوخاً وأطفالاً. ويستوي في هؤلاء الرؤساء المرتكبين للجرائم البشعة من منحوا جائزة نوبل ومن لم يمنحوها بعد. وذلك الاتفاق الصهيوني في الهدف وفي ارتكاب الجرائم ليس غريباً على من قال الله سبحانه - وهو أصدق القائلين - عن أسلافهم الذين هم شر سلف لهم: إنهم يقولون: (ليس علينا في الأميين سبيل).
ومن الجدير بالذكر - وهو أمر لم ينسه الكثيرون، وإنما تناساه من ماتت فيهم الكرامة- أن قادة الدول العربية، الذين كانت لهم كرامة ومكانة رفيعة وهيبة محمودة داخل دولهم وخارجها، قد قرروا في مؤتمر الخرطوم - عام 1967م- أنه لا مفاوضات مع العدو الصهيوني، ولا اعتراف بشرعية وجوده على الأرض العربية، ولا سلام معه. لكن بعد انتقال العظام من أولئك القادة إلى رحمة الله دب ضعف الإرادة في نفوس من لم يكونوا مثل أولئك العظام تصميماً وإرادة، وإذا بزعماء الدولة الأمريكية المتصهينة، أو العاجزة عن إغضاب الصهاينة، ينجحون في إقناع ضعيفي الإرادة والتصميم من الزعماء العرب بالجلوس على طاولة التفاوض في مدريد مع زعماء الصهاينة. وكان أولئك الصهاينة برئاسة شامير، الذي كان مجرم حرب ما زالت يداه حينذاك ملطختين بدماء المجازر البشعة في فلسطين. وكان ذلك النجاح - كما قال وزير خارجية أمريكا حينذاك، جيمس بيكر، أهم إنجاز للإدارة الأمريكية برئاسة بوش، لصالح الكيان الصهيوني، إذ كان الجلوس مع زعماء العرب هدفاً سعى إلى تحقيقه ذلك الكيان على مدى أربعين عاماً. ومن أهم الإنجازات الأخرى التي قامت بها تلك الإدارة والمتصلة بتهويد فلسطين أن بوش تولى شخصياً مسؤولية تأمين خروج يهود الفلاشا من أثيوبيا عندما كان نائباً للرئيس، وأن إدارته جعلت استيعاب اليهود من مختلف أنحاء العالم أساساً في علاقتها بالدولة الصهيونية بحيث استقبلت هذه الدولة -خلال عمر تلك الإدارة - نصف مليون يهودي أنفق على تمويل برامج استيعابهم من المعونة الأمريكية المخصصة للدولة المذكورة كل عام.
لقد كان هدف الصهاينة - وما يزال - تهويد فلسطين وإخلاءها من أهلها الأصليين. وقد سعوا -وما زالوا يسعون- لتحقيق ذلك الهدف بما اتصفوا به من حقد وصلف أحياناً وبما أوتوا من خبث ومكر أحياناً أخرى، وذلك وفق ما يرونه مناسباً من الظروف لكل خطوة في السير لاكتمال تحقيق ذلك الهدف الأساسي. لم يقم كيانهم إلا على مجازر إرهابية بشعة، كما اعترف بهذا أحد زعمائهم، مجرم الحرب بيغن في كتابه الذي عنوانه الثورة. وظل الإرهاب هو الصفة المميزة للكيان الصهيوني وإن ادعى أقطابه زوراً وبهتاناً أنهم ينشدون السلام، أو وصفهم أحباؤهم المتصهينون من زعماء أمريكا، الصديقة لبعضنا، كبوش الابن بأنهم داعة سلم، أو منحت جائزة نوبل للسلام لمن منحت منهم مع أن تاريخ حياتهم سلسلة من جرائم الحرب.
وفي هذا العام بالذات تسارعت خطوات الصهاينة لإكمال تهويد فلسطين، كما اتضحت أكثر فأكثر خطوات إخلائها من سكانها بشتى الوسائل كالإصرار على يهودية دولتهم تمهيداً ماكراً لإجراء العرب منها تحت مصطلح ما يسمى بالترانسفير. وكل ما أشير إليه من تهويد فاضح يجري مدعوماً دعماً جلياً من الإدارة الأمريكية، التي انخدع من انخدعوا منا بألفاظ نمقها رئيس تلك الإدارة في خطاباته. وكل هذا التهويد الفاضح الواضح يجري في ظل إصرارنا، قادة وشعوباً، على الاستمرار في تجرع كؤوس الذل والمسكنة.
قبل عشرين عاماً كانت أمريكا تعد إقناع الزعماء العرب بالجلوس على مائدة المفاوضات مع الصهاينة أجل خدمة لهم. وكانت صادقة في اعتبار تلك الخدمة كما عدتها. وها هي ذي الآن تتوسل إلى الصهاينة بمختلف الإغراءات كي يعلنوا تجميد بناء المستوطنات (المستعمرات) في الضفة الغربية المحتلة ثلاثة شهور فقط لاستئناف المفاوضات بينهم وبين السلطة الفلسطينية. وهي تعلم -كما يعلم الكثيرون- أنها مفاوضات أثبت تاريخها، كما يثبت الواقع، أنها عبثية لم تقد -ولن تقود- إلا إلى مزيد من خضوع الفلسطيني المفاوض، واستسلام العرب الأذلاء المستكينيين للأمر الواقع الذي يفرضه الصهاينة وفق ما يريدون. على أن أغرب ما يكون هو أن يدعي مدع أننا أمة لم تفقد إرادتها الحرة.