الثقافة في معناها الواسع والرحب لا تنحصر فيما نعرفه من اطلاع واسع على الأدب أو العلم وأبواب التقنية المتعددة والتي يزخر بها هذا العالم الذي لا يتوقف عن الكشف والاختراع والجديد في كل علم، ولأن ذلك يعني القدرة على اكتشاف الصواب والسير به قدماً إلى عوالم جديدة تنفع البشرية جمعاء، وبالمقابل فإن ذلك يستدعي بالضرورة الابتعاد عن الأخطاء وتجاوزها لأن ذلك التكرار سوف يبعد الفرد والمجموعة عن الوصول إلى الصواب وتأكيده.
ولأن ما سبق يعني بالضرورة أن العقلية التي أفرزت كل هذه الثقافة إنما تؤسس على العقلية العلمية البحتة، في المجتمعات التي تخطو خطواتها نحو الكشف والإبهار، تتخلص شيئاً فشيئاً من تلك العقلية التي تضع القبيلة أو الأسرة.. أو ربما عقلية فردية هي المنهاج والقدوة الذي أصبح بفعل التراكم وعدم التخطي إلى مثال من العيب تجاوزه أو ربما حتى مساءلته، وكأن الذي يقدم على التجاوز أو حتى على الذي يطرح أسئلة علمية أو منطقية إنما يمثِّل خروجاً سافراً سواء يتجاوزه أو حتى طرح السؤال الذي يشغل باله.
دخلت مجتمعاتنا العربية إلى أتون هذا العالم الذي يؤمن بالعلم والمعرفة ويبتعد أشواطاً عن ذهنية الخرافة والوجل وخلق الخوف غير المبرر في حالة أن تطرح فكراً جديداً أو رؤية مختلفة عن السائد.. هذا السائد الذي لم يشعر.. بل ولا يرغب أن يشعر أن مصادر المعرفة لا تتعلق بحدود معرفته الموروثة والتي في كثير من الأحايين تربك ذهن المتابع الذي يرغب الوصول إلى الحقيقة.. بل إنه من المتاح له أن يقف ليعرف.. ويقف ليسأل.. وربما يقف ليعترض، هنا وفي هذه المرحلة بالذات تنتصب أمام الكثير من الاءات من القبيلة أو من الأسرة.. أو حتى مما تعودنا عليه.. ولو كان خطأ لا يبرر استمراره، ضمن هذا النمط من التفكير المتكرر تغيب تلقائياً ثقافة الشكر وثقافة الاعتذار التي لا نجدها إلا لماماً في هذه المجتمعات الأحادية النظرة.
ثقافة الشكر لا يمكن أن تنتج إلا في حالة أن يكون الفرد أو الجماعة قادرة على الإضافة وقادرة على الإنتاج المعرفي.. ومتى ما وصلنا إلى هذا القدر فإن مقابل ذلك هو الشكر العملي الذي يشعر به الإنسان لتحقق الجديد فهو يقدم شكره على من قدم ويقدم.. بل إن عدوى ذلك يمكن أن تنتشر في المجتمع الذي يرغب في أن يكون كل فرد فيه قادراً على الإنتاج وقادراً على الإضافة وقادراً على التغيير، وفي المقابل فإن ثقافة الاعتذار هي الوجه الآخر للعملة.. وهي لا تحدث إلا عندما يعترف الفرد أو المجموعة بأن ما تم إنجازه أو الكشف عنه لم يبتعد كثيراً عن الحالات السابقة الجامدة التي لم تغيّر شيئاً له الأهمية سواء بالنسبة للجماعة ككيان.. أو الفرد بذاته.. المجتمعات المنتجة تجد كلمة الشكر لديها في كل كبيرة وصغيرة، يتعلمها الطفل منذ نعومة أظفاره حتى يصبح كهلاً يحمل من التجارب العديد والكثير، كما أن هذا الطفل إذاً يتعلم الاعتذار.. وهي حالة إنسانية رائعة توضح فيما توضحه فكرة العمل الإيجابي والعمل السلبي، بطبيعة الحال ربما أن هذا الرأي لا يمكن له أن يكون واضحاً في العمل الإداري الذي اقتنع بمسلمات إدارية قد تمَّ إنجازها منذ مدد طويلة مضى عليها الزمن.. وتعاقب على هذه الأنظمة الكثير من المديرين والرؤساء دون أن يفكر هذا الموظف أو ذاك أو هذا المدير أو ذلك ولو لبرهة بأن هذه الفقرة في نظام ما لم تعد تواكب العصر ومتطلباته الجديدة، وهي بالتالي ناشئة من تغيُّر العقلية الشابة الجديدة والمعتمدة على معطيات العصر الجديد والتي من أولوياتها تعلُّم اللغات الأخرى.. وإتقان علم شبكة المعلومات الذي قرَّب المسافات.. وقهر شيئاً اسمه الرقابة التي أصبحت بعد هذا العصر من نوادر عصر سبق، سوف أكرر أن هذا هو عصر الشباب الذي لن يستغني عن حكمة من سبقه وأخلاقيات القبيلة أو الأسرة الإيجابية.. إلا أن الحقيقة الناصعة أن بالقدر الذي تجد فيه أن ثقافة الشكر وثقافة الاعتذار أصبحت سمة لدينا.. عندها نحن بخير.. وسلامتكم.