تُعدّ اللغات الوسيلة المثلى للتفاهم والتسامح المتبادل، ويُعتبر احترام اللغات كافة العامل الأساسي لضمان العيش المشترك في سلام للمجتمعات وأفرادها كافة دون استثناء، وبجانب الاهتمام باللغة العربية حددت الأمم المتحدة يوماً معلوماً للاحتفاء بها بوصفها إحدى اللغات الست المعتبرة في أروقتها، كغيرها من اللغات؛ سعياً منها لزيادة الوعي والاحترام لتاريخ وثقافة ومنجزات كل اللغات الست العاملة في مجتمع الأمم المتحدة.
وإذا كانت الأمم المتحدة قد اهتمت باللغة العربية فإنه يبقى علينا نحن العرب والمسلمين مسؤولية عظيمة تجاهها، تقديراً وفخراً واعتزازاً بمكانتها المقدسة، باعتبارها لغة القرآن، التي علَّمها الله تعالى آدم عليه السلام، وهي لغة أهل الجنة، واللغة التي نزل بها الوحي على قلب نبي هذه الأمة، قال تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف، وقال عز من قائل {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) سورة فصلت، والآيات والأحاديث النبوية الدالة على عظم هذه اللغة كثيرة، ليس هذا مجال سردها.
ولقد اهتمّ السلف الصالح بشأنها، وشعروا بمسؤولياتهم وواجبهم نحوها، واهتمّ الخلفاء والأمراء بسلامة الكلام من اللحن، يقول الخليفة عبدالملك بن مروان: كيف لا يعجل علي وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة مرة أو مرتين؟! ومن طريف ما روي أن أحد النحاة دخل على هشام بن عبدالملك، فلما حضر الغداء، وعاد هشام، قال لفتيانه تلاحنوا عليه، فجعل بعضهم يقول: يا أمير المؤمنين رأيت أبي فلان، والآخر يقول: مر بي أبا فلان، ونحو ذلك، فلما أكثروا من اللحن، أدخل الأعرابي يده في الصحفة، ثم جعل يطلي لحيته، ويقول لنفسه: ذوقي هذا جزاؤك في مجالسة الأنذال! يقول أبو منصور الثعالبي: مَنْ أحب الله تعالى أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي، أحب العرب، ومن أحب العرب، أحب العربية.. إلى آخر كلامه.
من المؤكد قولاً أن المحافظة على الموروثات للدول يتم عن طريق سَنّ القوانين لحمايتها من الضياع والعبث، واعتماد اللغة لغة رسمية في كل المؤسسات المدنية والإعلامية بشكل خاص هو من أهم مقومات التمسك بالثوابت الوطنية والموروثات المجتمعية المحلية لأي دولة تعتز بلغتها، ولقد أقرت - ولله الحمد - تشريعات المملكة وأنظمتها اعتبار اللغة العربية هي اللغة الأم، وهي اللغة الرسمية المعتمدة في البلاد، ويرجع إليها في كل العقود والتسميات وتشريع الأنظمة، وهذا أمر واقع لكل الدول التي تحارب التبعية، وثمة شاهد على ما نقول: نقلت لنا الأخبار والمعلومات أن فرنسا وألمانيا جعلتا لغتيهما خطاً أحمر وفوق كل اعتبار، وأظن اليابان هي الأخرى.
استوقفني لكتابة هذا المقال ما رأيته في طريق الملك فهد وشارع التحلية وشارع التخصصي بالرياض وشارع التحلية بجدة، ولربما في أماكن ومدن أخرى، بكتابة أسماء محال تجارية ومطاعم وشركات عالمية بل مؤسسات حكومية بلغة أجنبية حافة، دون ترجمة أو تعريب! وهي بلا أدنى شك حصلت على تصاريح من أمانات تلك المدن، رغم التأكيد عليها من وزارة الشؤون البلدية والقروية، بالتعاميم الصادرة لها.
بالله عليكم، مَنْ يغتال لغتنا المجيدة؟! ومَنْ يقتل هويتنا؟! هؤلاء المتسببون يعلمون حتماً أن النظام الأساسي للحكم في هذه البلاد، المتمثل في إحدى مواده، يؤكد على أن اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة العربية، إذن أين الخلل؟! وأين الجهات الرقابية لتلاحق هؤلاء الذين يحتاجون إلى دروس مكثفة في الوطنية، هم أولى بها من طلاب الابتدائي؟!! يقول حافظ إبراهيم:
أيهجرني قومي عفا الله عنهم
إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فرات
ويقول:
وسعتُ كتاب الله لفظاً وغاية
وما ضِقْتُ عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
لغتنا العربية تستغيث بأهل الحل والعقد، وتحتاج إلى تأكيد سيادي، يحميها وينقذها من المد التغريبي المخيف، ومن أولئك المولعين بالحضارة الغربية، الساخرين بحضارتنا العربية والإسلامية المجيدة. وبالمناسبة هنا كتاب للمستشرقة الألمانية (زينغريد هونكه) عنوانه (شمس العرب تسطع على الغرب)، أوصي المتجاهلين لأمتهم وحضارتهم بقراءته؛ حتى يعرف هؤلاء التبعيون فضل أمتهم العربية والإسلامية على الحضارة الغربية، التي يولعون بها حتى الثمالة! والحق ما شهد به الأعداء!
dr-al-jwair@hotmail.com