رحل واحد من أترابي بوفاة الدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمات الله، واحد من أترابي في السنّ، فهو من مواليد السنة التي ولدتُ فيها ... وهذا الرحيل إشارة من الله سبحانه وتعالى وتنبيه إلى مواليد هذه السنة بصورة خاصة إلى أنّ الموت الذي يفرّ منه الناس لابد منه وأنه قادم، وأنّ العاقل الحصيف الموفّق هو من كان مستعداً دائماً لهذا الرحيل، مستعداً للقاء الله عزّ وجلّ، ينطوي قلبه على خوف من الله عزّ وجلّ، ورجاء في رحمته وثوابه وعفوه وغفرانه..
لقد كان رحيل الدكتور (محمد عبده يماني) مفاجئاً لجميع من عرفه من أهلٍ ومحبين وزملاء ومعجبين ومريدين وما أكثرهم ... وقد افتقده الأهل والمحبُّون، وبقي مقعده شاغراً في الأندية الكثيرة التي طالما تحدث أو شارك فيها وبقي صوته قوياً مؤثراً عميقاً في حلقات الأدب والفكر والمجتمع .... وكذلك فإنّ كثيراً من المؤلّفات والأبحاث لا تزال تنتظره ليكتب فيها كلماته الأخيرة أو سطورها الختامية، قبل أن تظهر على العلن، وتخرج إلى النور ... ذلك أنّ (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) كما جاء في الأثر.
سألني أحدهم لماذا سمّيت الدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمة الله الوزير (المجتهد)، بينما أطلقت اسم الوزير (العبقري) على كلٍّ من الشيخ (جميل الحجيلان) أمدّ الله في عمره، والشيخ (إبراهيم العنقري) عليه رحمة الله؟ وماذا تعني بالوزير (المجتهد)؟ وهل صحيح أنك استقلت من العمل في (وزارة الإعلام) في عهد الدكتور (يماني) عليه رحمة الله؟ وما هي الأسباب؟
وأقول: نعم استقلت من العمل في (وزارة الإعلام) في عهد الدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمة الله، ولأسباب سأذكرها في مقال قادم بإذن الله، إذ أنّ المقام لا يناسب الخوض في هذه المسألة الآن! ... ولقد غادرت (وزارة الإعلام) قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وأنا في غاية الحزن والإحباط! وكنت أشبه بمن تنزع منه روحه، على الرغم من أنني انتقلت إلى عمل كبير مادي ومعنوي!
ولقد شحنتني تلك الحادثة غصباً وحنقاً على الدكتور (محمد عبده يماني) ما الله به عليم! ... ومن العجيب أنني كنت كلما حدّثتني نفسي أن أتوجّه إلى الله بالدعاء عليه، كنت أجد نفسي أنني لا أستطيع أن أقوم بذلك ... وسرعان ما يذهب هذا الخاطر عن بالي!
وفي تقديري أنّ هذه المنازعة في النفس تعود لسببين رئيسيين؛
السبب الأول: أشياء رأيتها في الرجل أو سمعتها عنه سواء يوم كنت موظفاً في (وزارة الإعلام) أو بعدما غادرتها ثم غادرها هو عليه رحمة الله!
والسبب الثاني: تعرّفت عليه في الآونة الأخيرة من مصدرين موثوقين؛ الأول هو الزميل الدكتور (بدر أحمد كريم) والثاني هو الزميل الأستاذ (سليمان محمد العيسى) متّعهما الله بالصحة والسعادة والعافية ...
لقد أطلقت على الشيخ (جميل الحجيلان) أطال الله في عمره، لقب (العبقري الإعلامي) لأعماله الإعلامية الكثيرة التي أنجزت في عهده خلال السنوات السبع أو الثماني التي قاد فيها وزارة الإعلام، وكان لها آثارها النفسية والاجتماعية والثقافية مما بيّنته في مقال سابق.
وكذلك فقد أطلقت لقب (العبقري الإداري) على الشيخ (إبراهيم العنقري) عليه رحمة الله، بسبب الإجراءات الإدارية والمالية التي امتلأ بها عهده خلال السنوات الخمس التي قاد فيها وزارة الإعلام، والتي تجلّت أكثر ما تجلّت في تيسير التعاملات الإدارية والمالية في وزارة الإعلام ومعها، وفي تعديل تعرفة البرامج الإذاعية والتلفزيونية تعديلاً إيجابياً ملفتاً للنظر، وإتاحة الفرصة أمام موظفي الوزارة المميّزين من أن يستفيدوا من معطياتها إذا هم قاموا بأعمال إضافية، وسهولة إجراءات صرف مكافآت برامج الإذاعة والتلفزيون إلى مستحقيها ...
هذا بالإضافة إلى تدعيم جهاز الوزارة البشري بعدد من الكفايات المميّزة، وفي طليعة هذه الكفايات، الأستاذ (عبد الرحمن أمين كاتب) أمدّ الله في عمره، فقد أحيى (الإدارة المالية) في الوزارة وبعثها من مرقدها، وكذلك الأستاذ (محمد ياسين المكتبي) عليه رحمة الله، الذي ضبط شؤونها القانونية.
أما الدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمة الله، فلم يأت بشيء جديد، بل سار على نهج سلفيه؛ الشيخ (الحجيلان) والشيخ (العنقري) وذهب مذهبهما في العمل الإعلامي والإدارة ...
لقد كان عليه رحمة الله، (مجتهداً) كما قلت، فهو أشبه ما يكون بالإمام (الغزالي) يرحمه الله، وقد كان مجتهداً في مذهب الإمام (الشافعي) رحمه الله ... أو أشبه ما يكون بالإمام (ابن تيمية) والإمام (ابن القيم) رحمهما الله، وقد كانا (مجتهدين) في مذهب الإمام (أحمد بن حنبل) يرحمه الله ...
ولقد اجتهد الدكتور (محمد عبده يماني) رحمه الله في أمور فأصاب فيها؛
منها تصريحه الأسبوعي كوزير للإعلام عقب جلسة مجلس الوزراء المتضمّن جدول أعمال المجلس وما بحثه وأقرّه من أمور ... وكان هذا التصريح الأسبوعي باكورة عمله.
ومنها أيضاً نقله لوقائع الأذان من البيت الحرام والحرم المدني الشريف، ونقله كذلك وقائع صلاة التراويح في شهر رمضان، وتذكيره من خلال (التلفزيون) خاصة بأهمية (يوم عرفة) و(يوم عاشوراء) وسنية صيامهما وما إلى ذلك ...
واجتهد الدكتور (محمد عبده يماني) في أمور أخرى لم تصل فيها درجة الإصابة إلى ما وصلت إليه في الأمور الأولى!!
أقول إنّ الأسباب التي أفرغت تلك الشحنات من الغضب والحنق على الدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمة الله من نفسي عليه، بل جعلتني أدعو له بدل أن أدعو عليه، وأرجو له من الله المغفرة والرحمة والرضوان ... هي أكثر من سبب والله أعلم!
من ذلك، تقديره لعلماء الدين واحترامه لهم ولاسيّما أولئك الذين جمعوا بين العلم بالشريعة وبين التربية الروحية، والأخلاق المحمدية؛
فقد كان من أسباب إعجابي بالدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمة الله منذ ما قبل مجيئه إلى (وزارة الإعلام)، موقفه من الشيخ (محمد متولي الشعراوي) عليه رحمة الله، فقد كان (اليماني) أحد تلاميذ الشيخ (الشعراوي) بل أحد مريديه، وقد تجلّى ذلك من الندوات التلفزيونية التي أجراها معه في ذلك الوقت عليهما رحمات الله. كذلك فقد كلّفني الدكتور (اليماني) عليه رحمة الله في فترة انتدابه لي كمشرف عام على (إذاعة جدة) وإذاعة (نداء الإسلام)، أن أقوم بحل مشكلة مع الدكتور (محمد علوي مالكي) في (مكة المكرمة) تجلّت فيها حفاوته بأهل العلم وحرصه على احترامهم وتقديرهم ...
كذلك فقد كان الدكتور (اليماني) عليه رحمة الله، حفياً بسماحة الشيخ (أحمد كفتارو) عليه رحمة الله، أحد علماء الشام الكبار والمفتي العام السابق لسورية، كان حفياً به حفاوة بالغة في أول اجتماع تم بينهما، وتوطّدت بينهما وشائج المحبة والمودة والاحترام منذ لقائهما الأول وإلى أن انتقل الشيخ (كفتارو) إلى رحمة الله.
ذلك هو السبب الأول ... وأما السبب الثاني لتغيُّر مشاعري نحو الدكتور (يماني) عليه رحمة الله، فهو توظيفه لنفسه منذ انتهت خدمته في (وزارة الإعلام) ومنذ أكثر من ربع قرن للعمل في المجالات الخيرية والإنسانية، فقد جعل من نفسه وعلمه ومكانته وجاهه وعلاقاته، وسائل تخدم حفظة القرآن وتشجّع على تلاوة كتاب الله، وتمسح دمعة الأيتام، وتحنو على الأرامل، وتعين الضعفاء والمعوزين والفقراء، وتُسْمِعُ صوت الناس إلى من يستطيع مساعدتهم ودعمهم وتأييدهم ...
والسبب الثالث في تقديري، هو محبتّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة إخوانه المسلمين إلى ذلك، وحرصه على أن يعلِّم المسلمون أولادهم محبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأكيده على ذلك من خلال المقالات الصحفية، وميادين الكتب، والمحاضرات والندوات، وبرامج التلفزيون ...
وأما السبب الرابع لتغيُّر مشاعري نحو الدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمة الله بالاتجاه الإيجابي، وهو سبب أقدِّره كلَّ التقدير، وأحسب حسابه بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، فهو برُّهُ بوالديه عليهما رحمات الله؛
فقد ذكر الزميل الدكتور (بدر بن أحمد كريم) في أحد كتبه وقد اطلعت على ذلك منذ حوالي سنة، أنه شاهد بعينيه في أحد مواسم الحج الدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمة الله وهو وزير للإعلام يحمل والدته على ظهره صاعداً بها سُلّم مبنى (وزارة الإعلام) في منى ليوصلها إلى مقر إقامتها!
وأما الزميل الأستاذ (سليمان بن محمد العيسى) فقد ذكر في مقاله الذي نشرته له (الجزيرة) قبل حوالي أسبوعين، أنه شاهد بعينيه الدكتور (محمد عبده يماني) عليه رحمة الله وهو وزير للإعلام يدفع العربة التي تحمل أباه في أحد المستشفيات ليوصله إلى الطبيب المعالج، وإصراره على القيام بذلك دون غيره، رغم كثرة المتبرعين بالقيام بهذه المهمة ورغبتهم الشديدة بأن يقوموا بها عنه، من السائقين والمراسلين والعاملين في الوزارة وفي المستشفى!!
وباختصار شديد فإنّ هذا السبب يكفي وحده بأن تتحوّل غضبتي عليه رحمه الله، إلى رضى وطمأنينة، وأن يتحوّل سخطي إلى فرح ومسرّة، وأن أدعو الله له بأن ينزله منزلة الصديقين والشهداء والصالحين، فقد قال نبيُّنا ومعلِّمنا وهادينا عليه الصلاة والسلام إلى كلِّ خير:
(فليفعل البارّ ما شاء أن يفعل فلن يدخل إلاّ الجنة. وليفعل العاقّ ما شاء أن يفعل فلن يدخل إلاّ النار).
د. زهير الأيوبي -
a-AIAYOUBI@hotmail.com