مع مغرب يوم الخميس 3 محرم 1432هـ ودعت عائلة آل دليم ابنها البار وفتاها الكريم دليم بن أحمد آل دليم بعد صراعٍ مريرٍ مع المرض، واجهه الفقيد وذووه بالصبر والاحتساب، وهذه هي الحياة لقاء وافتراق، وبلاء وعناء، ونحن فيها على موعدٍ غير معلوم للوداع الذي لا لقاء بعده إلا في الدار الآخرة.
فجائعُ الدهر ألوانٌ منوعةٌ
وللزمان مسراتٌ وأحزانُ
وهذه الدارُ لا تبقي على أحدٍ
ولا يدوم على حالٍ لها شانُ
كتب بعض السلف إلى أخٍ له يعزيه فقال: أنت يا أخي أعزك الله عالمٌ بالدنيا وما خُلقت له من الفناء وأنها لم تعط إلا أخذت، ولم تسر إلا أحزنت، وأن الموت سبيل محتوم على الأولين والآخرين، لا دافع عنه ولا مؤخر لما قضى الله عزّ وجلّ به، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وليس المصاب الأكبر في فقد أجسادٍ وأشخاصٍ كتب الله سبحانه أن تكون زرعًا للموت، ولكنّ المصاب الجلل فقد المعدن الكريم والنفس الإنسانية الطيبة، والتي يدفن صاحبها وتدفن معه خصاله الزاكية، ونبله الرفيع، ونحسبُ أنَّ الحبيبَ الراحل كان صورةً مشرقةً لمكارم الأخلاق، وموفور الشمائل يعتزُّ بها كل قريبٍ أو محبٍ له.
وما كان قيسٌ هُلْكه هُلْكُ واحدٍ
ولكنّه بُنيانُ قومٍ تهدّما
كلُّ من عرف دليم يشهدُ له بحسن الخلق، وسماحة الطبع، وسلامة القلب، فضلاً عن مواقفه الإنسانية وحبِّه الخير للآخرين، ومحاولة نفع الناس، والسعي لقضاء حوائجهم، حتى في آخر أيّامه عليه سحائب الرحمة، وأحسبُ أنَّ مثل هذه الخصال الوافرة جعلت من ابن العائلة البار محبوبًا للجميع كما كان هو محبًا لهم حريصًا عليهم، رحيمًا بحالهم، وقد حدّثني ذات مرةٍ -ويشهد الله على ما أقول- عن قلقه وتأثره لما يراه من عدم الترابط بين شباب مجتمعه وأنّه يخشى عليهم من كل سلوكٍ شائنٍ أو عاصفٍ يعصف بالشاب عن الاستقامة والذي كان يؤرقه ويهمه وضع الناشئة والشبيبة الصغار وتربيتهم على الاستقامة والخلق الرفيع، وكان له طموحٌ وأملٌ في تحديد جلسةٍ خاصة بشباب عائلته لتفقد أحوالهم، ولا يُستغرب هذا النبل وهذه المروءة على نفسٍ ترفَّعت عن الحسد والضغينة وحب القطيعة.
قد يُحسُّ المرءُ في بعض مصائبه ونوائبه بالألم الجاثم على النفس لحظاتٍ ثم يرتفع؛ لأنّه يستطيع أن يدرك أسوأ الاحتمالات التي تتبع بلاءه، ويُعِدُّ لنفسه معها سلوانًا ومخرجًا، ولكن إذا كان البلاءُ في مثل الحبيب الراحل فإني أحسبُ أنّ الألم والحزن طويل لأنّ فقده هو فقدٌ لنادرٍ عزيزٍ قلَّ أن يكثرَ في هذا الزمان إلا بفضل الله ورحمته، وأحسبُ أنّ الحديث عن الفقيد الراحل قد يطول لو أنّ في النفس قوةٌ على استذكار ما مضى، ولكنّ حزن القلب قد شتّت أخاه عن سداد القلم، وأعترفُ له ولآل بيته بأنّه كان موفقًا ومباركًا من الله الذي وهبه هذه المحبة وهذه السيرة الطيبة والتي ختم سيرها في الثلاثين من عمره.
يا كوكبا ما كان أقصر عمره
وكذاك عمر كواكب الأسحارِ
وهلال أيامٍ مضى لم يستدر
بدراً ولم يُمهل لوقت سرارِ
عجل الخسوف عليه قبل أوانه
فمحاه قبل مظنة الإبدارِ
أخي دليم، عذرًا إذا توقّفَ قلم أخيك عن تحبير مآثرِ نبلك، وجميل مواقفك، وطيب معشرك، ولكنّ أخاك قد فقد بعض عقله لمَّا فقدك وأنت قطعة منه، وأنت في القلب يا أخي، وأنا ومحبوك سنزورُ قبرك دومًا، بإذن الكريم الأكرم.
وإني لأرفع العزاء الخالص لوالد الفقيد العم الحبيب أحمد، وصله الله بفضله وعافيته والذي بعثَ فينا جميعًا الأمل بالله والرضا بقضائه والصبر والاحتساب حين رأينا ذلك الوجه النيّر تعلوه ابتسامة الرضا عن الله الكريم والتسليم له في اختياره، وهي وصيته التي كان يوصينا بها في أكثر من موقف، والعزاء الخالص لوالدة الفقيد وكافة إخوانه وأعمامه الأفاضل وقرابته وأسأل الله أن يجعل ما أصابه كفارة وقربة له وأن يتقبله في الشهداء، وأدعو له ولسائر موتى المؤمنين بواسع المغفرة والرحمة والرضوان، وأن يجعل ما يستقبله خيرًا له مما رحل عنه، وأرجو أن يجبر الله سبحانه كسرنا فيه، وأن يعيننا على صلاح الحال، وترابط القلوب، وحسن العمل، نحن وكل مبتلىً في عزيزٍ لديه.
راشد بن عبدالله القحطاني -rashed_alqhtany@hotmail.com