رجل الشارع غير المسيس أو المؤدلج - مثله مثل المنظرين والمتخصصين الأكاديميين - يعي أن هناك تأزمات وتناقضات في أوضاعنا المجتمعية اليوم وإن كان لا يستطيع شرح مسبباتها وتداخلاتها. ولو سألناه: ما هي أهم المشكلات المجتمعية التي تراها تواجه محاولات التخطيط للتنمية الشاملة؟ وفي أوضاع اليوم - غير السياسية وغير المرتبطة بهيكلة أو تنسيق العلاقات بين المؤسسات الحكومية المعنية بتقديم الخدمات - لربما أعطانا رأس القائمة الممتدة:
1 - البطالة 2 - تزايد الفقر 3 - عشوائية التغيير 4 - تعطيل المرأة 5 - الاستقدام 6 - عدم تطابق مرئيات وأولويات القطاع الخاص مع السياسات الرسمية وأولوياتها 7 - تقبل مبدأ الأنانية الفردية والفئوية...
ويمكن الإضافة الى القائمة بتفاصيل خاصة فرديا أو فئويا، كما تشاؤون.
وأجدها كلها ظواهر أو أعراض مرتبطة جذريا بمعتاداتنا ومناهجنا التربوية والتعليمية والتنشئة في المنازل.
الأهم بينها كسبب ملموس لتعثر التخطيط التنموي المجتمعي هو عدم ملاءمة محتوى المناهج في نظامنا التعليمي لما نود أن تخرجه مؤسساتنا التعليمية من خريجين؛ لا من حيث الكيف: أي المحتوى والتركيز المهني والمهارات؛ ولا من حيث الكم: بمعنى توفير المسارات التخصصية المطلوبة والإرشاد والتوجيه لاختيار المسار الأنسب. وهذا ينطبق على تعليم البنات والبنين في المرحلة ما بعد الابتدائية. والنتيجة أننا ما زلنا نضخ في المجتمع حملة وحاملات الشهادات النظرية الذين لايجدون من يوظفهم حين اكتفت وامتلأت مواقع التوظيف في القطاع العام.
وما زلنا أيضا - في تناقض شكلي- نضخ عبر الاستقدام البديل لليد العاملة الأرخص المستقدمة من الخارج.
بالإضافة الى ذلك مع الأسف معتاداتنا وتنشئتنا ترسخ الأنانية الفردية والفئوية حين لا تزرع في الدارسين توجه التفكير المستقبلي ومسؤولية المواطنة، ولا تعطي أهمية لمبدأ ارتباط المردود المادي على الفرد بكفاءته وما يقدمه من مهارات، ولا تزرع في النشء احترام قدرات الأنثى العقلية ومهاراتها، ولا تزرع في أصحاب الأعمال حس المسؤولية الاجتماعية.
وبالتالي لا نستغرب أن منظور المجتمع ظل حتى الآن يتملص من المسؤولية الفردية مصراً على أن المسؤولية تقع أولاً وأخيراً على أكتاف السلطة؛ ولا نستغرب أن تندر في الأغلبية قيمة الأمانة المهنية.
عدا ذلك كثير من قصور طموحات التنمية يعود الى خلل في المنشأ: ليس لدينا تخطيط إستراتيجي ناجح، ولذلك فالتغير الفعلي عندنا يأتي عشوائياً وصعب التعديل بأثر رجعي وغالبا يتوجه نحو الشكليات وليس المسببات الأصل.
ولكي أفصلها بدقة: ما زال نظامنا التعليمي ومحتوياته وأولوياته يفتقد قدرة الاستعداد المسبق لمواجهة تغيرات المستقبل وسوق العمل وما تقدمه الكفاءة التقنية داخليا وعالميا. ولذلك تفاجئنا التغيرات العشوائية حين تصبح أزمات متصاعدة. ولو كنا استعددنا لها قبل أن يغدو أطفال الأمس وهم على مقاعد الدراسة الأولية، شباب اليوم وشاباته من خريجي جامعاتنا الباحثين عن وظيفة غير متوفرة، لربما لم نجد أيضا محبطين ومحتاجين بلا مهارات إنتاجية، يبحثون عن حل في الوجهة الخطأ عبر الواسطة إن وجدت، وتستقطبهم جبهات ظلامية إلى المخدرات والتشدد والإرهاب والجريمة والهجرة من الوطن.
في آخر زيارة لي إلى دبي ذكر لي أحد المطلعين ان هناك الآلاف من المواطنين السعوديين رجالا ونساء استقروا للعمل في دبي. وهؤلاء نخبة مركزة من الشباب المتعلم من الجنسين.
كثيرون يعتقدون ان حل مشكلة البطالة هو سعودة الوظائف ولكن الأمر ليس ببساطة إحلال خمسة ملايين سعودي محل خمسة ملايين مستقدم.
الوظائف التي تتطلب مهارات متخصصة تتطلب لسعودتها سعوديين متخصصين فهي ليست ممكنة بإحلال أجساد تحمل أوراقا ثبوتية بأجساد لا تحملها. وقد توقف الابتعاث لقرابة ثلاثة عقود من الزمن الضائع قبل أن نعود إليه مؤخراً في عهد الملك الحكيم عبدالله بن عبدالعزيز أدام الله ظله وبعد نظره وتوجهه.
ولكني أتوجس أن نسبة من مؤهلينا من الجنسين سيختارون ألا يعودوا إلى الوطن خوفا من عدم توفر وظائف مرضية ولأن أوضاع الخارج من حيث الفرص والانفتاح ستجتذبهم بمغرياتها المادية والمعنوية. وسيضيف هذا متغيرا جديدا لم ندخله بعد في تحليلاتنا وتوقعاتنا التنموية. ولن تحل مشكلة البطالة بعودة المبتعثين بأعداد هائلة إلا إذا حلت مشكلة الانغلاق المجتمعي، والرواتب المتدنية، وقلص عدد تأشيرات الاستقدام ومدتها، وربطت بعدم وجود متخرجين يبحثون عن عمل في نفس التخصص.