كثيرة هي الأخبار التي نطالعها عن جرائم مختلفة تُرتكب بدوافع متعددة معروفة أو مجهولة ويكون الفاعل أو المجرم مريضاً عقلياً أو مريضاً نفسياً أو مدعياً للمرض
سواءً كان عقلياً أو نفسياً، بل أصبح مؤخراً ادعاء المرض العقلي المخرج
الأسهل لتجاوز العقوبة المتوقعة على المجرم، وتذهب عادةً هيئة الدفاع عن المجرم لادعاء مرضه النفسي أو العقلي لكسب مزيد من الوقت بغية تجهيز حجج وبراهين وصيغ مختلفة أو لتهدئة الرأي العام إن كانت الجريمة قد أثارت المجتمع سواءً من حيث حجمها أو نوعها.
وكان ادعاء المرض العقلي إلى عهد قريب يُعتبر مخرجاً سهلاً للمجرم للتخلص من عقوبة كبيرة حيث ضعف إمكانية القطع في مرضه من قبل الطبيب أو مجموعة الأطباء النفسيين لعدة أسباب يأتي تعدد أعراض المرض على رأسها وصعوبة البت جزماً بسلامة أو مرض العقل لتعقد قياس ذلك، فالنفس البشرية تمرض كالجسد تماماً إلا أن قياس وتشخيص الأمراض الجسدية يُعتبر أسهل بكثير من قياس وتشخيص الأمراض النفسية والعقلية.
لست هنا بصدد الحديث عن أعراض ومسببات الأمراض العقلية أو النفسية، لكني أجد نفسي مضطراً للحديث عن أكثر الأمراض شيوعاً بالعالم وأكثرها استخداما من قبل المدافعين عن مرتكبي الجرائم كون المرض إن تأكد وجوده يفصل الواقع الذي يعيشه المريض عن أوهامه وأفكاره وتجعله يعيش عالمين مختلفين في وقت واحد، وهو ما يُسمى بالسكيزوفرينيا أو الشيزوفرينيا أو الفصام العقلي، ذلك المرض الذي يُعتبر من أكثر الأمراض العقلية فتكاً بالمصابين وأكثرها انتشارا في العالم، ففي دراسة حديثة تم اكتشاف أن 8% من المرضى شاغلي الأسرة في العالم هم مرضى الفصام العقلي.
مرض فصام العقل الأكثر شيوعاً في العالم لم يتم بعد الكشف عن مسبباته، ويعاني كثيرون من إيجاد صيغة موحدة لتعريفه إلا أن كثيراً من الأطباء اليوم يعرفونه على أنه مرض عقلي كالصرع يُحدث اضطراباً في التفكير والوجدان والسلوك وأحيانا الإدراك، ويؤدي إذا لم يعالج في بادئ الأمر إلى تدهور في المستوي السلوكي والاجتماعي كما يفقد الفرد شخصيته وبالتالي يصبح في معزل عن العالم الحقيقي. ولأن كثيراً من أعراضه مشابهة لأعراض أمراض نفسية وعقلية أخرى فقد يجد عدد من الأطباء صعوبة في تشخيصه، إلا أن السمة البارزة في أعراض هذا المرض تُعتبر مزمنة، والمصاب به يعاني من إعاقة دماغية. وأعراضه كثيرة وواضحة، فكما أن مريض الفصام يعاني بشكل مستمر من تخيلات غير حقيقية كسماع أصوات مختلفة، يعاني أيضاً من أعراض أخرى مفزعة تتمثل في توهم المريض بأن الآخرين يقرؤون أفكاره، ويمكن لهم التحكم به أو التآمر لإيذائه، ومثل هذه الأعراض يمكن لها أن تخلق له الرعب وتهيّج مشاعره.
وفصام العقل لا يصيب الرجل دون المرأة فهو يصيبهما بشكل متساوٍ تقريباً وأعراضه تبدأ بالظهور في سن مبكرة ما بين الثانية عشرة والثلاثين ويستطيع أي شخص قريب من المصاب ملاحظة أعراض المرض بسهولة بالغة من خلال ما ذكرته سابقاً كتدهور السلوك الفردي أو الاجتماعي وفقدان الشخصية والشكوى المستمرة من سماع أصوات أو الشكوى من تهديدات متعددة تُحدق بالمريض.
الخبر غير المفرح أنه وحتى اللحظة وكما لم يتم اكتشاف الأسباب الرئيسة للإصابة بهذا المرض، فإنه لم يتم اكتشاف العلاج الشافي له بالرغم من أن الطب النفسي يُعتبر من أكثر أنواع العلوم تقدماً وأكثرها سرعة في اكتشافاته إلا أن جُل ما يستطيع فعله الطبيب المعالج هو الاكتفاء بإعطاء المريض العقار الذي يساعده على السيطرة على المرض وليس علاجه. بقي أن أشير إلى أن ما يعتقده كثيرون من أن تعدد الشخصيات هو أبرز سمات هذا المرض هو اعتقاد خاطئ تماماً فازدواج الشخصية أو تعدد الشخصيات يُعتبر مرضاً نفسياً وليس عقلياً وهو أحد أنواع الهستيريا.أصبح اليوم ومع تقدم العلم لجوء الكثير من المجرمين عبر دفاعهم إلى ادعاء هذا المرض هو ضرب من الاحتيال لكسب الوقت كما ذكرت آنفاً، وذلك لاكتشاف العلم لكثير من أعراض هذا المرض التي لا يستطيع إتقان تمثيلها المجرم كما كان في السابق، ولا يملك القضاة في جلسات الاستماع بالمحاكم عادةً في مثل هذه الحالات إلا إحالة المجرم للكشف الطبي الذي يُثبت بدوره خلوه من المرض بعد أن يكون المجرم وهيئة دفاعه قد كسبوا الكثير من الوقت لتحضير ربما دفوعات جديدة أخرى، وكثير ممن يدعون هذا المرض في الغالب محتالون لأن أعراض المرض لا تظهر فقط حين وقوع الجريمة بل يسبق ذلك بزمن ويستطيع جميع من حوله اكتشاف ذلك بسهولة بالغة، لذا فالذي يقتل والدته مدعياً أن ثمة من أمره بذلك وأنه سمع صوت شخص يأمره بحمل السكين وقتل والدته للتخلص منها ومن شرورها ولم يكن يظهر على سلوكه قبل ذلك أي أعراض غير طبيعية، يكون كاذباً محتالاً وسليماً من المرض وما ادعاؤه ذلك إلا لتجاوز ما قد يناله من عقاب.لذا وحتى لا تضيع حقوق الناس بين مريض وغير مريض، علينا أن نتأكد قبلاً أن مدعي المرض بعد وقوع الجريمة، لديه تاريخ مرضي سابق أو اضطرابات في الإدراك أو سلوك فردي أو اجتماعي متدهور، وأن من لديه تلك الأعراض من الأشخاص غير المجرمين لابد من اللجوء به فوراً إلى طبيب للبدء بمراقبة حالته وعلاجه قبل أن يقع ضحية لارتكاب جريمة.
إلى لقاء قادم إن كتب الله.