|
تحقيق - وسيلة محمود الحلبي :
يعود الدكان إلى عهود قديمة جداً في مكة المكرمة ودمشق والقاهرة وبغداد والرياض ويعتبر تراثاً غالياً لا بد من الحفاظ عليه وعدم الاستهتار به، وخلال الخمسين عاماً الماضية تطور التسويق والإدارة والاتصالات بشكل سريع جدا، ولم تتطور الدكاكين لذلك بقيت في الأحياء الشعبية لها نكهتها الخاصة ولها زبائنها الخاصين وفي بعض الدول العربية ما زال لها رواج كبير، أما في الدول الكبيرة فلا وجود لها على الإطلاق. وفي ظل هيمنة الأسواق المركزية التي انتشرت بشكل سريع إضافة إلى كثرة السلع المعروضة وتنوع أساليب العرض والطلب كان لا بد أن نقف احتراماً وإجلالاً لدكان الحي الذي لا زال صامداً في وجه تلك الهيمنة التسويقية المفزعة، حيث كان لنا أكثر من لقاء..
لقاءات متعددة
البداية كانت مع أبي عبد الله الذي قال: إن هذا الدكان ورثته أبا عن جد، ولي به أكثر من عشرين عاما وكان والدي قبلي، ونحن نحب أهل الحارة كثيرا ونلبي احتياجاتهم ونعرفهم من الكبير حتى الصغير ونعتبرهم أسرتنا الصغيرة، فدكاني رغم صغر مساحته إلا أنه يفي بالكثير من احتياجات أهل الحارة وفي أحيان كثيرة يشترون مني بالآجل ويسددون نهاية الشهر وهذه عادة متبعة في كثير من الحارات، وفي بعض الأحيان يحتاجون إلى أشياء من الممكن ألاتوجد في دكاني فأضطر لأن أغير في ديكور الدكان لأضعها بشكل لافت للنظر حتى لا أخسر زبائني.
أم خالد قالت: دكان الحي نعمة، فهو قريب من البيت وفيه غالبية احتياجاتنا مما يوفر علينا الجهد والوقت في الاختيار، فالسوبر ماركت بعيد عن البيت ويكلفنا مصاريف زائدة ففيه نشتري ما هب ودب دون وضع خطة معينة وخاصة إذا كان معي الأبناء، بينما هنا لا أشتري إلا ما أحتاجه فعلا، ومن الممكن أن أرسل ابني إلى الدكان بورقة صغيرة ويحضر لي كل ما أريد دون أن أخرج من البيت.
وتقول حصة الرفاعي طالبة جامعية: إن دكان الحي مهم جدا ولا يمكن أن ينقرض أبدا ويفي بالغرض، ولكني كغيري من الشابات أستمتع بالتسوق في الأسواق الكبيرة ففيها العروض المتميزة إضافة إلى الاختيار الأوسع والتسوق الحديث يجلب الراحة النفسية رغم أنه مكلف فوجود أكثر من خدمة في مراكز التسوق الحديثة يجعلنا نصرف أكثر مما كنا نعتقد أننا سندفعه قبل التوجه إلى السوق، وهذه خطط رجال الأعمال الحديثة البارعة والذكية في الاستثمار الاقتصادي.
ويقول الشاب محمد أزموز: لا بأس من وجود دكان الحي فلماذا أذهب للسوبر ماركت لأشتري الخبز أو اللبن مثلا، بينما موجود في الدكان، إضافة إلى أنني أعرف صاحب الدكان جيدا وأحيانا نجلس عنده ونتحدث حول احتياجات الشباب الشرائية فأفيده بأفكاري التي يطبقها فورا ويأتي بالجديد ليرضي حاجات شباب الحارة، ولكني بصراحة أستمتع جدا بالتسوق في المولات فهي متعة حقيقية وفكرة ذكية جدا في التسوق، فالعالم في تقدم سريع وفي المولات ماركات متنوعة رغم أن هذا التنوع ضار جدا بميزانية الأسرة لأنه يجبرنا على الشراء دون هدف معين.
وتقول فاتنة خالد: إن صاحب الدكان مكانه محصور جدا فهو الأمن والمدير والمحاسب والبائع ويعتمد المجتمع الصغير (الحارة) عليه بشكل كبير وأساسي وهو جزء من التراث، لا أتصور حارتي من غير الدكان الذي أحتاجه في ذهابي وعودتي من الجامعة، وأطفال الحي لا يمكن أن يستغنوا عن هذا الدكان فهو روح الحارة وفيه يجدون متعتهم الشرائية إضافة إلى أن البضاعة الموجودة في الدكان أرخص بكثير من المعروض في المولات.
الرأي الاقتصادي
ولمعرفة الرأي الاقتصادي فقد التقينا مع الخبير الاقتصادي والمستشار وصفي الحلبي وسألناه: هل ينقرض دكان الحي في ظل اتساع ظاهرة انتشار السوبرماركت في عالمنا العربي، وكيف يمكن لدكان الحي أن يطور ويبتكر أساليب تسوق جديدة ليحافظ على زبائنه وينافس السوبرماركت؟ وهل نشتري ما نحتاجه فقط أم أن انفتاح التسوق الحديث يجبرنا على الشراء العشوائي؟ فأجاب: في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الفكر الاقتصادي العربي في التسوق لم ينضج بعد بسبب ابتعادنا عن الصناعة الحقيقية واتصافنا بالمواطنين المستهلكين وليس المنتجين بالمفهوم الاقتصادي. فكل شيء يبهرنا. حتى لو حصلنا عليه ووضعناه في منازلنا دون حاجة وهذا الموضوع أيضاً له بعد اجتماعي سيكولوجي. أما (دكان الحي) فمهما انتشرت ظاهرة السوبر ماركت والمولات الكبيرة في وطننا العربي. فلن ينقرض دكان الحارة الذي هو واقعياً يشكل تاريخ ونشأة وديمومة البيع والشراء في حياتنا والذي تحول اسمه في كثير من الحارات والأحياء إلى ميني ماركت تجاذباً مع اقتصاد السوق الاجتماعي وما زال هذا الدكان يؤمن الطلبات إلى المنازل عبر الهاتف والدراجة الهوائية. أما التسوق بين الحاجة والعشوائية فكلاهما نعيشه في حياتنا الاقتصادية كما قدمت حيث أصبح التسوق إحدى النزهات الأسرية الأسبوعية سيما إذا اصطحبنا معنا أولادنا فنبدأ بعربة واحدة ونصل إلى صندوق الحساب باثنتين أو ثلاثة. ولا ننسى أيضاً أن أسلوب العرض والعروض المغرية تتخذ أسلوباً مغرياً للتسوق وهذه لم تأت من عبث إنما أتت من دراسات تجارية ونفسية تؤثر في النفس البشرية فترى اليد وقد امتدت وتناولت أغراضاً ومواد لم تكن في قائمة المشتريات واللوازم وهذا نلمسه ونحياه كل يوم في حياتنا الاستهلاكية إضافة إلى عاطفتنا التي تتحرك تجاه ما تطاله أيدي أولادنا في السوبر ماركت ولا نستطيع معها مجادلة، بل رضوخاً لمتطلباتهم. سيما وأن الجدال في مجتمع التسوق يفرض علينا نوعاً من الخجل حتى لا نوصف بالبخل. وحتى نهدئ من روع عاصفة صراخ أولادنا أمام إصرارهم على شراء ما يرغبون. ويدخل في الشراء العشوائي أيضاً جانب الغيرة. فكيف يكون لدى أم فهد مجموعة عائلة مولينكس الكاملة وأنا لا أمتلكها. وكيف يكون لدى أم مشعل جميع أدوات صناعة الكيك المنزلي وأنا ليس عندي منها شيء فيجب أن أقتنيها حتى لو لم أكن ممن يصنعن الكيك ولكن لا بد من إطفاء شعلة الغيرة في هذا المجال. وكما قلت فقد تحول دكان الحارة إلى ميني ماركت ووضع لافتة مضيئة وحافظ نوعاً ما على أسعاره التقليدية. ويتلقى الطلبات لتوصيلها إلى المنازل عبر الهاتف ويتصل أيضاً بشكل متطور بزبائنه ويعلمهم عن وصول تشكيلة من الألبان والأجبان والزيتون والفواكه والخضار. وما زال في كثير من الأماكن يضع أمام دكانه ثلاثة أو أربع كراسي للجوار لربط أواصر العلاقة التجارية معهم ولا ننسى أن هذا التطور أيضاً سمح لأصحاب هذه الدكاكين احتلال الأرصفة وجزء من الشارع لعرض بضاعته بشكل مغرٍ وكبير. وفي النهاية.. وفي ظل اقتصاد السوق الاجتماعي والأحوال المعيشية سيبقى دفتر الدكان (السمّان) قاعدة للشراء وقضاء الحاجات وراحة للشاري ومكسباً للبائع ليس ربحاً مما يبيع فقط، بل حفاظاً لزبائنه الذين لا يمتلكون القدرات الشرائية النقدية ويرتاحون من الدفع النقدي حفاظاً على ما تبقى في الجيب وهم مطمئنون أن دكان الحارة سيلبي جميع متطلباتهم بدون مطالبة. ولن ينافس دكان الحارة السوبر ماركت بأي شكل من الأشكال لأن قنوات التوزيع بالنسبة له متدرجة فهناك موزع أكبر إلى أن يصل إلى المنتج، بينما السوبر ماركت يستغني عن الموزعين ويذهب إلى المنتج فوراً، حيث يأخذ كميات أكبر وأسعاراً أقل. ومع ذلك يبقى لدكان الحارة نكهته الخاصة وتراثه المحبب وديمومته بين أفرادها.
الرأي الاجتماعي
كما التقينا بالدكتور ناصر صالح العود وكيل عمادة خدمة المجتمع بجامعة الإمام واستشاري العلاج الأسري بالعيادات النفسية المتخصصة بالرياض ليحدثنا عن تأثير دكان الحي نفسيا واجتماعيا على السكان ومدى ارتباطهم به؟ ومن منظور اجتماعي لماذا يذهب الناس إلى السوبرماركت؟
فقال الدكتور ناصر العود: يختلف تأثير دكان الحي على المجتمع الذي يكون فيه حسب ثقافة الأفراد وطبيعة تعاملهم معه. ولا شك أنه نتيجة للتغيرات الاجتماعية والتنموية لاسيما في المدن الكبرى فقد خفت تلك التأثيرات عن ما كانت تشكله سابقاً. غير أنه لا يزال لدكان الحي تاثيرات عديدة في الأحياء المتوسطة والفقيرة حيث يمثل نقطة الالتقاء وتبادل الحديث بين أفراد الحارة كما أن العاملين فيه غالبا ما يكون لهم اطلاع على أسرار بعض البيوت والعلاقات الأسرية وهنا تكمن المشكلة خصوصا في وجود عدد من العماله الأجنبية والتي تمثل مشكلة في ظل ارتباطهم بأفراد الأسر وخصوصا الأطفال. وأتمنى أن يعمل القائمون على أهمية سعودة العمالة إذا كانت تلك البقالات داخل الأحياء خاصة أنها جزء من العادات والتقاليد وتؤثر على الراحة النفسية لأهل الحي (فيقولون الحي بدون دكان حي ميت) والدكان هو جزء من ثقافتنا وفي القديم إذا تأخر صاحب الدكان عن فتحه كالمعتاد يسبب قلقا كبيرا لأهل الحي فيسألون عنه ويزورونه، ولكن في وقتنا الحاضر بدأت هذه العادة في الاختفاء.. وهنا لا بد من إشارتي إلى أهمية تفعيل الدراسات الاجتماعية وخصوصاً من قِبل المختصين في علم الاجتماع والدراسات الأنثربولوجية مهم جداً في هذا الشأن.