ونورد في هذه الحلقة أمثلة تطبيقية على التعسف في استعمال الشرف:
1 - عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم :(يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم)، والرجل الذي سابه قيل هو بلال رضي الله عنه، قال البدر العيني مستنبطاً فقه الحديث: «فيه عدم الترفع على المسلم، وإن كان عبداً ونحوه من الضعفة لأن الله تعالى قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات13)، وقد تظاهرت الأدلة على الأمر باللطف بالضعفة وخفض الجناح لهم، وعلى النهي عن احتقارهم والترفع عليهم»، وفي هذا استغلال لشرف النسب.
2 - عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت من خلفي صوتاً، اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال: (لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار)، فأبو مسعود رضي الله عنه استغل شرف السيادة في ضرب الغلام وإيذائه، ولكنه استدرك الأمر فأعتقه فرضى الله عنه.
3 - ورد في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنه كان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسعوا له، حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول - وكان به ثقل في السمع - فجاء يوماً وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس، ويقول: تفسحوا تفسحوا، فقال له رجل قد أصبت مجلساً فاجلس، فجلس ثابت مغضباً فغمز الرجل فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانه، وذكر أماً كانت له يعير بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه استحياء، فأنزل الله الآية، ووجه الاستغلال هنا ظاهر.
4. وورد أيضاً في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات13) أنه لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى أذن على ظهر الكعبة، فقال: عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم يرَ هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود، وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئاً يغيره، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً، أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا، فأقروا، فأنزل الله هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء، قلت: وهؤلاء المعَيِرون كلهم من مسلمة الفتح، حيث لم يقر الإيمان في قلوبهم بعد، حين قالوا ما قالوا.
5 - وروى الإخباريون أن خلافاً نشب بين محمد بن عمرو بن العاص وأحد المصريين، فقام ابن عمرو يضرب المصري بالسوط ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين، فشكاه المصري إلى الخليفة عمر بن الخطاب فاستدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه إلى المدينة، فلما حضرا أعطى عمر الدرة للمصري، وقال: اضرب ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، ثم التفت عمر إلى عمرو وقال: متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. «مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص98».
6 - أورد أهل الأدب أن أبا العلا المعري - الشاعر المعروف - كان عند الشريف المرتضى (علي بن الحسين، أبو القاسم المتوفى سنة 436هـ) فجرى ذكر المتنبي الشاعر فتنقصه المرتضى، وجعل يتبع عيوبه فقال المعري - وكان يتعصب للمتنبي - لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله:(لك يا منازل في القلوب منازل) لكفاه فضلاً، فغضب المرتضى وأمر بسحبه، فسحب المعري برجله وأخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة ؟ قالوا: لا، فقال أراد قول المتنبي في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
ففي هذه القصة نلحظ كيف استغل الشريف المرتضى شرف النسب فأوقع بالمعري ذلك العقاب.
تلك أمثلة حية تكشف لنا صوراً قاتمة من الممارسات الخاطئة نحو استغلال مركز «الشرف» وهي صور تتكرر في كل زمان، وفي معظم المجتمعات الإنسانية يمارسها فئات محدودة، ولكن لها هيمنة وكلمة نافذة في مجتمعها، ومن هنا تظهر آثارها السلبية الفادحة التي لا تقاس بآثار غيرها من الممارسات، ذات الطابع الخاص، مهما كبرت.
والسر في ذلك أن أولئك لهم نفوذ اجتماعي بالغ التأثير، سواء أهل النسب والحسب، أو أهل المناصب والولايات الكبيرة، أو أهل المال والجاه العريض، أو أهل العلم والفكر، أو أهل الدين، أو ذوو الطباع والأخلاق المتميزة، فمثل هذه الفئات إذا صلحت وسخرت مركزها الاجتماعي في سبيل الخير والمصلحة العامة، فإن صلاحها يعم المجتمع لا محالة، وهذا معنى ما جاء في الأثر: «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس: العلماء والأمراء».
وقول الأفوه الأودي:
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
أما إذا كانت هذه الفئات قد انكفأت على نفسها، وسيطرت عليها الأنانية، وغلبت مصالحها الخاصة على المصالح العامة، وتاجرت بمكتسباتها ومدخراتها ؛ من العلم أو الدين أو الجاه أو المال أو النسب.. إلخ، فذلك نذير خطر يهدد المجتمع كله، ففي الأثر يروى: «إن لله أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم» أخرجه الطبراني.
وأكثر من ذي بلاغةً ووضوحاً قول الحق سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء16). والله الموفق.
*الرياض