أؤمن بقوة بأن تدريب الإنسان على العادات السلوكية القويمة يبدأ من البيت الصغير، فالمدرسة البيت الأكثر اتساعاً.. اتساعاً في المساحة، وعدد الحجرات التي يتنقل بينها في صغره ومراحل نموه، وتعدد في الأوجه التي يقابلها كل يوم، ويقضي معها جل ساعاته، واتساعاً في الخبرات التي يتلقاها تدعم تلك التي يأخذها من والديه، أو تنقضها.. فالبيت والمدرسة ساعدان في جسد التربية، والتدريب فيهما على السلوك الجيد من مهام الملتصقين به، القائمين على غرس ما يشاؤون في تربته الغضة. ومع أن العادة السلوكية هي مظهر أداء الإنسان لحركاته، وتصرفاته، إلا أنها لا تتكون سليمة خالية من الشوائب المشينة الدالة على خلق الإنسان، إلا عن فهم تام عند التربية بأنها واجهة القيم التي يتدرب عليها, تلك التي تمثل ما يستقر في نفوس المربين من قناعات ومعتقدات عن مدى أهمية ربط العادة عند الصغير بخلقه, وبأن الأخلاق هي قناعة ومعتقد جوفيان، وهي أداء في سلوك ظاهري.. فهي خفية وظاهرة.. ومن ضمن هذه العادات يكون الإحساس بالمسؤولية والمشاركة والإتقان، والميول الإيجابية تجاه النفس فلا يضعها في مواقف الخذلان, والفوضى, والعبث, والاستهتار بالوقت والتحصيل والاكتساب ومن ثم الإنتاج، ثم تجاه الآخرين فيمنحهم أحقية دورهم في الصغير من المواقف حسب مرحلته؛ ليسهل عليه تقبلها في الكبير منها، عندما تشد قدماه طولاً، وتحملانه لساحات الحياة خارج أسوار المدرسة، وخارج جدران البيت.. فيطمئن إلى أن الحياة ليست له وحده، وبقدر ما يحب لنفسه فإن الآخرين يحبون لأنفسهم، فيتبادل معهم نجاحاتهم، ويمنحهم مما أنجز, في إشاعة تبادل رحب من أجل الإنسانية كلها، في مجتمعه الصغير، ومن ثم الأكبر.. ومن أجل تحقيق وجود العناصر البشرية المؤهلة للحياة مع الجماعة، بعادات سليمة، عن قناعات واضحة وجلية، ومعتقد متين في أسسه الأخلاقية، تلك التي مثلها أنموذج نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - حيث سلك نحو تقدير الصغير، وإيلائه حق التدرب على السلوك الجيد في الكلام، وفي الجلوس وفي الطعام وفي التعلم، وفي الصلاة وفي المنام، وفي المشاركة، وفي الدخول على الكبير، وفي تقنين الوقت، ومعرفة متى وما تتطلبه منه، وما تمنعه عنه، ونعم وما تتيحه أو تمنحه له..؟ ومطالبة الكبير بتنفيذ ما وجهه إليه في شأنه، حتى غدت كل مسالك المتدربين على يديه صلوات الله وسلامه تنم عن قواعد متينة بتربية العقول والنفوس، وباطن الأخلاق وظاهر سلوكها.. تلك مدرسة نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - للصحابة، ومن تبعهم ووالاهم بإحسان، فحتى الموالاة والاتباع كانا بإحسان وهما سمة السلوك الظاهر عن قناعاتهم ومعتقدهم الباطن، الذي دربه ورباه فيهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأحسن الله لهم الفضل بأن تتم عليهم الأخلاق رزقاً من عنده تعالى، وتثبيتاً لما انتهجوه في تربيتهم، وسلكوه في أدائهم.. نخلص من ذلك إلى أن مَنْ يتعود في صغره إتقان أداء عمله, بقناعة تامة في مسؤوليته نحو ذاته, ينعكس على نتائجه في المستقبل حصاد غراسه الذي بذره فيه مربوه وأخلصوا.. فمن يتدرب على الصبر في الاكتساب وتحمل وعورة طرق العلم ينشأ وهو صلب العود قوي البأس، والعلم يحتاج إلى دربة طويلة للجلوس إلى مصادره، والتقلب بين أوراقه ووثائقه، والرغبة للنهل والعب من موارده، وإتقان مسالكه.. فالعلم مصدر الوعي، والنور، لا يقواه إلا ذو دربة، ولا يصدق في احتمال مطالبه إلا ذو رغائب للغوص فيه, ونماذج العلماء ممن بلغوا شأواً في الإنجاز, ووضع مصنفات البدايات، وابتكار الجديد، وتفجير كوامن البوتقات إنما كانوا ذوي دربة، وغدا النهل والعب عاداتهم السلوكية التي انبثقت من قناعاتهم بما يعلمون، ومعتقداتهم فيما يؤدون، وتزينوا بالحلم والثقة، والرحابة والنبل، وأخذوا عن غيرهم في غير إجحاف، وزادوا عليهم في أريحية وعطاء.. فأين ومتى تتسم عادات الجيل وما يلي من أجيال بحب العلم، والإقبال عليه، وإتقانه، ومد اليد للأخذ بكل زميل مقعد علم في دروبه، ومن ثم عمل في تطبيقه.. وبسط روح الابتكار أجنحة للأعالي، ونشر شذى الأخلاق عبقاً للعقول والأرواح..؟
حيث العلم ليس كتاباً يُقرأ، أو درساً يلقن فقط، بل منهج فكر ومسلك أداء، وخلقاً في ظاهر العادة، وباطن الدخيلة، ونوع الأداء.. في شتى مواقف ومنعطفات الحياة مع النفس ومع الأحياء.. تبدأ هذه العجينة الشاملة الجامعة في مطبخ البيت والمدرسة..اللهم فاشهد.