شهد الواقع السعودي في السنوات الأخيرة تحولاً نوعياً طال جميع نواحي الحياة، مُحدثاً بذلك انقلاباً أبيض على كثير من الممارسات والسلوكيات، والتي جاءت في بعض منها نتيجة مباشرة لحدوث تغيير في ذائقة المواطن، وتطلّعاته، ورغباته، وطموحه، ولا غرو القول بسبب زيادة.....
..... وعيه واطلاعه الذي غذاه وبعث الحراك فيه، وربما صبغه بصبغة جديدة أدوات التقنية الرقمية الحديثة التي أحدثت انفجاراً معرفياً هائلاً. ومن بين أبرز المجالات التي طالها اختلاف ملحوظ علاقة المواطن بالمسؤول، أو بالأحرى ما يأمله المواطن ممن يتولى دفة تسيير العمل في مؤسسة أو دائرة، وبخاصة المفصلية منها. ونظراً لأهمية دور المواطن ونظرته وتفاعله في كل عمليات البناء والتمنية الاجتماعية، والتي متى ما غُيّب بسبب عدم تواجد المسؤول الذي يتطلّع إليه المواطن، فإنّ هذا يؤدي إلى تعطيل في مساهمته الفاعلة في رص لبنات المشروع التنموي الكبير الذي نطمح في إنجازه، وممارسة دوره الفاعل في الحياة العامة، وصناعة المشهد العام. وسنأتي باقتضاب على نوعية التطلُّع الذي ينشده المواطن السعودي فيمن أسند إليه مسؤولية قيادة مؤسساتنا، وقبل ذلك، ومن أجل أن تكتمل الصورة بأبعادها المختلفة، سنبدأ في استعراض حال ونظرة المسؤول لدوره في السابق، ومن ثم نعرض للتطلُّع العصري الذي يراه فيه المواطن اليوم.
إلى وقت قريب كان مقبولاً، أو متوقّعاً من المسؤول الأول، أو مَن في حكمه من ذوي المراتب الوظيفية العليا في أي مؤسسة، أو دائرة حكومية، أن يتصدّى للإجابة برد يجافي الحقيقة عن تقصير تم إبرازه إعلامياً، أو خطأ مارسته جهته، بل إنّ ذلك المسؤول يعتقد أنّ من واجبه الاستماتة في الدفاع عنها، ومحاولة تبرئة ساحتها مما طالها من انتقاد يرتكز على حقائق دامغة، وهدفه بناء يراد منه تصحيح مسار العمل في تلك المؤسسة، وتوجيهه الوجهة الصحيحة، والإشارة إلى موطن الخلل. وفي أحيان يتجاوز ذلك إلى تقديم رؤى واقتراحات تسهم ولا شك حين الأخذ بها، بالرفع من أداء العمل في تلك المؤسسات. ومنطلق المسؤول في دفاعه هذا ومحاولته إبراز مؤسسته في أحسن حال، وتلميع صورتها، مبعثه اعتبارات لا تتجاوز - في تقديري الشخصي - المصلحة الشخصية، المتمثلة بالتشبُّث بالكرسي المخملي الدوّار الذي يعتلي عرشه. وهذه النوعية من المسؤولين من يعمل ويتصرّف بموجب ذلك، لأنه لا يزال يعيش بعقلية عقود ماضية، ترى أنّ مسؤولياته تتوقّف على الدفع بعيداً، بكل من يحاول الاقتراب من محيط مؤسسته، من خلال إلصاق تهم لمن بادر وأشار إلى موطن الخلل، بأنّ تلك المحاولات لا تعدو أن تكون إما محاولة للاصطياد بالماء العكر، أو القصد منها الإثارة والتأليب الجمعي، أو الرغبة بالثأر الشخصي، أو أنّ ما كُتب وقيل في أحسن أحواله تنظير لا يلمس الواقع، وهو في مجمله وواقعه (كلام جرايد) (أو حكي أو مهاترات فضائيات) لا يقدم ولا يؤخر. ومن هنا فأنا - المسؤول - لست معنياً بالالتفات إليه، وإعطائه أي قدر من الأهمية.
ويبدو أنّ بعض مسؤولينا أولئك، يغيب عن بالهم الفهم الكامل والدقيق لأدوارهم المنتظرة منهم، على خلفية مستحقات المرحلة الحالية، في ظل شيوع مناخ الوضوح والشفافية، والاعتراف بالخطأ، وتحمُّل المسؤولية بشجاعة، وفي ظل المتغيّرات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، بل وحتى التكنولوجية. فالمسؤول ليس دوره العمل دوماً على إبراز الجوانب الإيجابية في مؤسسته، أو إدارته الحكومية، والتغطية على جوانب النقص داخلها، ومحاربة كل من يحاول تجليتها وتسليط الضوء عليها، والشك، أو بالأحرى المبالغة في تقدير النتائج المترتبة على تقديم معلومات للنشر، أو الخوف على مستقبله عند الإدلاء بأي تصريح، أو الخشية من خضوعه للمساءلة حين الكشف عن بعض المعلومات والأخبار التي يجب أن يطّلع عليها الرأي العام، ومحاولة الابتعاد قدر الإمكان عن الاحتكاك المباشر بالإعلاميين، وإحالة طالب المعلومة، أو الخبر إلى مكاتب العلاقات العامة، التي تعتقد أنّ مهمتها تكمن في التلميع والتبرير للمسؤول والجهة التابعة لها.
اليوم بات المواطن السعودي يتطلّع عوضاً عن ذلك النوع لمسؤول عصري يتبنى أدواراً مختلفة متعدّدة المشارب يؤديها متمثلة بسعيه الحثيث لتوضيح الأمور، واحترام ضمير المجتمع ومصالحه العليا، وحق المواطن في الحصول على تفسيرات لكل ما يصدر عن مؤسسته، وينتظر منه أن يكون ذا رؤية ومنهج عمل، وليس ممن يختزل التنمية والتطور بردّة فعل، وأن يكون سلوكه منسجماً مع الأنظمة والقوانين، وممن يعمل في ظل نظم ولوائح متحرّرة غير جامدة، ومحيّداً في سلوكه الإداري للبيروقراطية، والجمود الوظيفي، ويتولى الرد على القضايا والمشاكل التي تتناولها وسائل الإعلام المرئي والمقروء منها، وجعل ذلك سياسة ثابتة له عند تعاطيه مع الإعلام.
المسؤول القيادي العصري الذي يتطلّع إليه المواطن، يجب كذلك أن يتمتع بقدر عالٍ من المهارات الاجتماعية, وأساليب التعامل مع الآخرين، وأن يعكس بكل شفافية وتجرُّد ما يدور في ردهات مؤسسته، أو إدارته، وألاّ يجعل منها مدينة فاضلة، أو أن يحاول تصويرها بذلك. كما أنه بحاجة إلى الابتعاد عند تعامله مع وسائل الإعلام عن الحذر والسرية التامة، والتجاهل لها، أو لنقل تحاشي التماس المباشر مع رجالات الإعلام؛ لأنه بفعله هذا يكون قد مهّد الطريق لتسرُّب، أو حتى اختلاق معلومات غير دقيقة تؤثّر سلباً على المؤسسة التي يدير دفّتها.
كما أنّ المواطن يتطلّع لذلك النوع من المسؤولين الذين يعملون على تفهم مشكلاتهم والتفاعل معها، ويعملون بكل ما أوتوا من قوة لتذليل الصعوبات التي قد تعترضهم، وأولئك الذين يصغون جيداً لصوت المواطن من أجل تحقيق مطالبه وطموحاته، وتحسين أحواله المعيشية، وذوي القدرة على اتخاذ قرارات مبنية على التنبؤ واستقراء المستقبل، وأن يكون ذلك ديدنهم في كل الأحوال والظروف، وليست سياسة مؤقتة تنفيذاً لحملة علاقة عامة، من أجل الترويج لرأس الهرم في هذه المؤسسة، أو تلك.
إنّ وجود مسؤول يعي ويدرك جيداً حجم مسؤوليته، وصاحب خصال إدارية وإنسانية ومهنية مثل تلك التي تمّت الإشارة إليها، يُمثل الركيزة الأساس في خلق مناخ معيشي يتطلّع له المواطن، وهو الضامن لنجاح مؤسستنا في تأدية دورها المنوط بها تجاه المواطن. وذلك يعود إلى أنّ مثل هذه النوعية من المسؤولين ينحون دوماً لصب جُلّ اهتمامهم للتفكير بكيفية توظيف قدراتنا البشرية، والمالية بشكل علمي مدروس ودقيق، يضمن لنا القيام بمنجزات تنموية بمعايير عالمية نفاخر بها أمم الأرض، تتحقق بسواعد رجال على قدر على من المسؤولية الذين لا يهدأ لهم بال حتى يوجدوا لنا أفضل البُنى التحتية بمواصفات عالمية معتمدة، تُحقق لنا قدم السّبق، ونعمنا بسببها بمزيد من الرفاهية المنبثقة عن توافر منجزات حضارية.