لعله السؤالُ الأهم الذي يواجهُه الكاتب «الورقي» في الزمن «التقني»؛ فأي جدوى ينتظرها، وأي مكان يقتعدُه، وماهي المسافة الفاصلة بين وهم التميز حين كان الكُتاب يُعدون ويشار إليهم فيعرفون وبين مُشاعية النشر إثر تعدد الوسائط؛ حتى بات بإمكان من شاء أن يكون له موقعٌ ومدونةٌ وصفحة على «الفيس والتويتر» وما في مدارها؛ يَكتب فلا يُحجب، ويقول كما يريد، ويتواصل معه الآلاف دون أن يستجدي زاويةً أو عمودًا أو حتى عبورًا طارئًا بين آنٍ وآن.
** يذكرُ أنه ألغى سبعةَ أعوامٍ من عمره الكتابي فلم يوثقها إلا في أعداد الصحف التي جمعها في حينها ولا يدري ما صنع الزمن بها، ثم التفت لضرورة التوثيق فطورها في كتبٍ ودراسات؛ ما يجعله يستعيد ذاكرةً ضاع ربعها، ولو أسعفته التقنية لما نقص منها حَرفٌ أو فاصلة.
** نشر مقاله «الصحفي» الأول في «الجزيرة» (1984م) تحت عنوان: (في الصحراء ولا نرتحل)، ولم يكن أولَ مقال له؛ فقد كتب ناشئًا في صحف الحائط المدرسية ومجلة المركز الصيفي الحولية ونشرة معهد الإدارة الشهرية، ومقالات علمية في مجلات مُحكمة، ومعظمُها ضاع كذلك، ولم يقدر أن ربعَ قرنٍ سيمر وهو منتظم في الكتابة إلا من إجازاتٍ يُلزم بها قلمه كل عام تمتد أشهرًا لقراءة ومراجعة وتأمل.
** تجربةٌ كفيلةٌ بتقديم دروسٍ ممتلئةٍ بالملل والخلل، ويكفي أن يشعر المرءُ بعدم الجدوى؛ فالصوت لا يصل، والحكاية لا تكتمل، والمعادلة تكرارٌ ودوار، ولو صرف وقته لإنجازٍ بحثي لأضاء وأضاف، وهذه هي الجدلية التي ينطلق منها الكتاب المتوارون؛ مَنْ لديهم جديدٌ حول قضايا الفكر والتنمية والوطن ثم لا ينطقون.
** لا ريب أن «طول مقام المرء مُخلقٌ لديباجتيه» - كما تنظير أبي تمام الذي يرى في الاغتراب تجددًا - وهو ما يعني - بمعادلة مقابلة - أهمية قراءةِ الكاتبِ نفسَه قبل أن يقرأه غيرُه ليدرك إن كان ما يزالُ يقول شيئاً.
** ولأن الصحيفة والكِتاب لم يعودا الوعاءين الوحيدين للنشر فإن التوقف لا يمثل هاجسًا مقلقًا لمن يُهمهم الحضور، وربما تفوقت مقالةٌ «شبكية» على أبرز المقالات المنتشرة للكُتَاب الذائعين؛ ما يجعل الصورة الحالية مختلفةً عن الصورة النمطية.
** القضية، هنا، لا ترتبط بخيار أو مسار، بل بالتقنية التي صيرت الكُتاب خارج مسار الحدود المُسيجة بالانتماء الظرْفي المحدود؛ ما يضعُهم في مواجهة الناس أينما كانت أرضهم، وهو ذاته ما يعني وضع الخَطْو في مكانه المناسب قبل الانطلاق لفضاءاتٍ تحسب وتحاسب وليس لها وسمٌ وحاجب.
** اليوم لم تعد الجهات الرقابية «التقليديةُ» قادرةً على الملاحقة والمساءلة والمصادرة، ولا مكان لكلمة مختبئة إن غادرت صدرَ صاحبها، وضجة «الويكي لِيكس» إشارة إنذارٍ لمن يظنون أن ثمة زوايا يمكنُ الاستتار في منحنياتها أوصناديق مغلقةً مهما ثقُلت أقفالُها.
** مجموعةُ حكاياتٍ مرتهنةٍ لمفارقات وما يخبئه الغد من مفاجآت، غير أن الناتج الأهم هو في مدلول النظرية الفيزيائية العتيدة؛ «ألا شيءَ يفنى»؛ فلا حرفَ يضيع، والتقنية تواجهُنا بسوءاتنا فيميزَ ذو الموقف من ذي المصلحة، والباحث عن الحقيقة من القافز فوقها، وويلٌ لمن يظن أنه مجرد كلامٍ تُخلدُه الدفوف أو تُعْطبُه الرفوف.
** العمرُ ومضة.