بغض النظر عن نسبة الصحة وحجم الحقيقة في أرتال التقارير المتعلقة بالأنشطة العسكرية والمجالات الدبلوماسية، التي بثها موقع (ويكيليكس)، والمستقاة من وثائق أميركية وغربية، خصوصاً أن تلك التقارير مست دولاً وأنظمة وشخصيات عالمية، أو تلك التي تُنذر بعواقب وخيمة على مستوى العالم
إذا ما واصل الموقع بث بقية التقارير، التي يقول إنها بالملايين، وإنها قد تطلق شرارة حروب دولية، كما ستفضح التوجهات والمشاكل الاقتصادية للدول الصناعية بالحديث عن الشركات العالمية الكبرى.. أقول بغض النظر عن كل ذلك فإن المسألة يمكن ُتؤخذ باتجاه آخر يتعلق بالموقف الغربي الحضاري من المعلومة! وهو موقف محكوم بفلسفة الحرية المعرفية وعدم احتكار الحقيقة وقبول الواقع. لهذا أزعم أن موقف الدول الغربية اليوم سواءً الإدارة الأميركية أو الحكومات الغربية المعنية مباشرة بتلك الوثائق، يشابه إلى حدٍ قريب موقف الدول العربية بالأمس إبّان مواجهتها ثورة المعلومات المدعومة بتقنية الاتصالات خلال التسعينيات الميلادية من القرن الميلادي الماضي، وتحديداً قنوات التلفزة الفضائية الهادرة، وشبكة (الإنترنت) العالمية التي لا تحكمها حدود ولا تعترف بالقيود، فلقد تحررت المعلومات من القيود الرسمية، وصارت في متناول الجميع بضغطة زر على جهاز التحكم عن بعد (الريموت كنترول) أو على لوحة مفاتيح الحاسوب.
سبب الزعم أن المؤسسات السياسية الغربية لم تقبل تلك التقارير تحت (حرية المعلومة)، خصوصاً أن تلك التقارير على غرابتها لم تصل إلى مستوى الأسرار السياسية أو الفضائح الدبلوماسية، التي قد تُطيح بأنظمة أو تطلق شرارة الحروب، إنما تكشف بطريقة غير مباشرة تعبيرات سياسية مختلفة عنها في واقعها الذي جرت فيه، أو بأسوأ الأحوال أنها (أكاذيب السياسة)، كما تكشف تباين مواقف الساسة أمام الكاميرات عنها داخل الغرف المغلقة. الطريف بالأمر أن تبرير الدعوة لوقف تقارير (ويكيليكس) بحجة أن التقارير العسكرية قد تتسبب في تعريض حياة أشخاص للخطر، أو التقارير الأخرى التي قد تؤثر سلباً على العمل الدبلوماسي، رغم أن منطق الأشياء يقول إن كانت التقارير مكذوبة فلن تضر العمل الدبلوماسي، وإن كانت صحيحة فالضرر حاصل بسبب من مارس هذا العمل وليس بمن سرب المعلومة، كما أن بإمكان المتضرر رفع قضية قضائية ضد الموقع، كما قام بذلك مصرف سويسري عام 2008م أمام القضاء الأميركي.
بل إن ردة فعل الحكومات الغربية تطور من التبرير إلى التضييق على موقع (ويكيليكس) الذي انطلق عام 2007م، فلقد توقف موقع (أمازون) الأميركي عن استضافته، ما دفع القائمين على (ويكيليكس) إلى البحث عن الاستضافة في دول أخرى كسويسرا أو فرنسا. إلا أن التوجه الفرنسي يُشير إلى رفض استضافة الموقع على الخوادم الفرنسية وفق ما ذكره وزير الصناعة الفرنسي في بيان نشرته وكالة (رويترز) من أن حكومته تدرس كيف يمكنها حظر استضافة موقع (ويكيليكس). بعد كل هذا العصف المعلوماتي تبدو حرية المعلومة التي طالما تغنى بها الغرب (حرية انتقائية)، فبالأمس كان يحارب بها إعلامياً دول العالم التي لا تخضع لسياساته ولا تنسجم مع مواقفه، واليوم يريد أن يكمم فمها، متناسياً حديثه المطول عن قيم الليبرالية التي قيل إنها الأنموذج الأصلح للبشرية وعندها سينتهي التاريخ الحضاري للبشرية، ما يعكس حال التضارب التي يعيشها الغرب المعاصر بين المصالح التي يريدها والقيم التي يؤمن بها، فمصالح القائمين على (ويكيليكس) هي نتاج فلسفة النفعية، التي هي جزء من الفكرة الليبرالية الغربية، والليبرالية تقوم بالدرجة الأولى على قيم أهمها (حق الحرية، وحق الاختيار، وحق الاستقلال). ناهيك عن أزمة (الأخلاق) الكامنة بين هذه المصالح وتلك القيم وفق المعيار الغربي. فهل ما قام به (ويكيليكس) أخلاقي؟ أم أن سكوته هو العمل الأخلاقي؟ وبمناسبة الأخلاق.. هل يمكن اعتبار ملاحقة الشرطة الدولية (الإنتربول) لجوليان أسانج صاحب (ويكيليكس) على خلفية الاشتباه في تورطه بقضايا أخلاقية في السويد جاءت مصادفة؟.