استكمل معكم الحديث عن أحد أكبر التحديات التي تواجه اقتصادنا الوطني، المتمثل في تفاقم أعداد العاطلين عن العمل، كنّا قد اكتشفنا مسبقاً حجم الإهدار الاقتصادي الكبير الذي يواجهه الاقتصاد بالتفريط في توظيف شريحةٍ فتية من السكان القادرين على العمل، تأكد لدينا علماً ويقيناً في الوقت الراهن أن ما نسبته 94 في المئة من العاطلين هم من فئة الشباب! وأن ما نسبته أكثر من 82 في المئة هم من حملة الشهادة الثانوية فأعلى، متجسداً هذا الإهدار في حجم الإنفاق الهائل على تعليمهم وتدريبهم وتأهيلهم بمبالغ تقدّر خلال هذا العقد فقط بنحو 1.7 تريليون ريال، ومتجسداً أيضاً في إهمال توظيف هذه الشريحة الفتية من السكان في صلب الدورة الإنتاجية للاقتصاد الوطني، تؤدي إلى رفع مستوى الدخل للأفراد، وتعزيز الطلب المحلي على السلع والخدمات، وتساهم في رفع النمو الاقتصادي المحلي، وتساهم في التخفيف من الآثار السلبية للتسرب المالي للاقتصاد الوطني للخارج الذي تتجاوز نسبته 12 في المئة منه، هذا عدا حجبه للآثار السلبية المترتبة على تفاقم معدلات العاطلين عن العمل اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وتنموياً.
إننا ونحن أمام تجربةٍ تنهي عقدها الثاني، وتتأهب لدخول عقدها الثالث مع هذا التحدّي الاقتصادي الجسيم (البطالة)، تضمنتْ صدور نحو 16 قراراً وتنظيماً من مجلس الوزراء الموقر ومن وزارة العمل، هذا عدا سياسات وبرامج ثلاث خططٍ للتنمية مضتْ يُضاف إليها الخطة التنموية الرابعة اليوم، وعدا إستراتيجية التوظيف المزمع تطبيقها قريباً، وعدا المؤتمرات والمنتديات الاقتصادية المتخصصة في هذا الشأن تحديداً، أؤكد أنه بالرغم من كل تلك الجهود الدؤوبة إلا أن النتائج -يا العجب- أتتْ معاكسة تماماً لها! فطوال تلك الفترة الزمنية؛ أخذ معدل البطالة منحنى صاعداً، وأخذ معدل الاستقدام من الخارج منحنى أكثر صعوداً! واليوم أرانا لا نفتأ عن تكرار ما مضى من سياسات وبرامج أثبتت التجربة فشلها الذريع، وماذا ستكون المحصلة في منظور خمس سنواتٍ قادمة أو حتى عشر؟! إن الإجابة لواضحةٌ كعين الشمس؛ مزيداً من الاستقدام يرافقه مزيداً من البطالة! إذاً ما العمل بعدئذ؟ إن واقع الحال المؤسف الذي يقف بوجهه البائس أمامنا الآن، ليقتضي انتهاج سياساتٍ وبرامج أخرى أكثر كفاءة وفاعلية، تُمكّن الاقتصاد الوطني من معالجة وحل هذه المعضلة المؤرقة، ولا أُبالغ إن قلتْ إن بأيدينا أن نحقق المستحيل! ليصبح معدل البطالة لدينا مساوياً للصفر في المئة!!
إنها مشكلة ناتجة في رأيي عن خلل في صلب السياسات الاقتصادية المتعلقة بسوق العمل السعودية، ومؤدى هذا القول يهدف إلى تحديد مكان الخلل بهدف معالجته، ووضع الحلول الناجعة للحد من تفاقمه رغم أنه الآن يتصف بهذه الصفة بكل أسف! كنتُ قد اقترحتُ في نهاية مقال الأسبوع الماضي مقترحاً أهدف من خلاله إلى نقل تكلفة وعبء البطالة إلى البند المدلل لتكاليف القطاع الخاص، محدثاً توازناً عادلاً بينه وبين البند الأكثر دلالاً لمزايا العناية والرعاية التي يحظى بها القطاع الخاص؛ على مستوى التمويل والمناقصات والدعم الذي يلقاه من الأخ الأكبر ممثلاً في القطاع الحكومي. يتمثّل هذا النقل (الإجرائي) البسيط لتكاليف وأعباء (البطالة) في فرض ما يمكن تسميته ب (ضريبة السعودة)، وقيام الجهاز الحكومي بتأسيس صندوق مستقل لاستقبال مدفوعاتها (الشهرية) الواردة من القطاع الخاص، يتم استقطاعها ودفعها للصندوق بنفس آلية دفع مستحقات التقاعد على الموظفين السعوديين، غير أنها في هذه الحالة تحديداً تُدفع بالكامل من الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص، دون المساس بريالٍ واحد من كامل أجر العامل المقيم! تبدأ هذه الضريبة من سقفها الأعلى 10 في المئة متدرجةً في الانخفاض حسب التزام أي من تلك الشركات والمؤسسات بنسب السعودة، إلى أن تتلاشى بتحقيق النسبة المستهدفة! بل قد تتحول لاحقاً إلى مصدرٍ ماليٍ داعمٍ للشركة أو المؤسسة، كما سأوضح بعد قليل.
إنه المقترح في رأيي الذي سيحوّل الأرصدة المتكدسة والمجمدة لمختلف القرارات والإستراتيجيات المتعلقة بالسعودة، إلى ما يشبه نقاط الاشتعال في كل إدارة للموارد البشرية بمختلف مؤسسات وشركات القطاع الخاص، تراها عندئذ ستتسابق بحثاً عن توظيف العمالة المواطنة، وسترى عندئذ وجهاً جاداً من قبلها يحتفي بطالبي العمل من السعوديين، وسترى عندئذ تحولاً جذرياً في استراتيجيات التوظيف؛ لعل من أبرز ملامحه أن بوابة الاستقدام ستضيق مساحتها بصورةٍ كبيرة، مانحةً بوابة توظيف السعوديين مساحةً قد لا تخطر على البال.
الحديث عن تفاصيل هذه الضريبة سيكون له شأن ومقامٌ آخر هنا على صفحات (الجزيرة)، والذي سيتم التوسّع فيه بلغة الأرقام التفصيلية، سيُنشر في تقريرٍ كامل يفي هذه القضية حقّها من الدراسة والبحث، غير أن من أهم ما يجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هنا، ضرورة معالجة الخلل الفادح في آلية تحديد نسب السعودة، والذي يعتمد في الوقت الراهن على (النسبة الكمية)، ليتحول إلى (النسبة النوعية) إن صحّ الوصف؛ التي تأخذ بعين الاعتبار: (1) نسب السعودة حسب كل مستوى إداري في الشركة أو المؤسسة. (2) نسبة إجمالي أجور السعوديين والسعوديات إلى إجمالي الأجور المدفوعة من الشركة أو المؤسسة. حيث قد تجد إحدى الشركات عن نسبة مرتفعة من السعودة، بل قد تضعها (شعاراً) للشركة في كل إعلانٍ لها، ولكن حينما تتوغل في أروقتها الموقرة؛ ستجد السعوديين محشورين في المراتب الدنيا! وستجد أن أجورهم قد لا تتجاوز 5 في المئة من إجمالي الأجور!! كل هذا سيتم التركيز عليه بمشيئة الله في التقرير المفصّل حول هذه القضية.
إن من أهم ما يجب الإشارة إليه الآن في خصوص إيجابيات العزم على فرض (ضريبة السعودة)، ما يمكن إيجازه فيما يلي:
1. نقل أكبر جزء ممكن من التكلفة الباهظة لانخفاض توظيف العمالة السعودية، وارتفاع معدلات البطالة بينهم إلى بنود تكاليف تشغيل القطاع الخاص المعفى من الكثير من الالتزامات تجاه المجتمع والبلاد.
2. توفير موارد مالية جيدة لتمويل عمليات تدريب وإعادة تأهيل العمالة المواطنة، وسد الثغرة التي يزعم القطاع الخاص وقوفها حجر عثرةٍ في وجه توظيفهم في القطاع.
3. توفير موارد مالية لدفع إعانات البطالة للعاطلين الراغبين فعلياً في العمل، وتجنيب ميزانية الحكومة مزيداً من الأعباء، ولعل هذا من أهم الحيثيات التي استند إليها معارضو دفع مثل تلك الإعانات للعاطلين، وقد لا يطول بها الأمد الزمني، إذ ستظهر الآثار الإيجابية لسياسة فرض هذه الضريبة مبكراً على القطاع الخاص، بما يجنبنا وجود أعداداً هائلة من العاطلين عن العمل.
4. أيضاً يمكن قيام هذا الصندوق لضريبة السعودة بتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة لمن يرغب من أولئك العاطلين عن العمل، حال قرر تأسيس مشروعاً استثمارياً يعود عليه بالنفع، وفي الأجل البعيد فسيساهم مثل هذا التوجّه البالغ الأهمية في دعم توجهات الاقتصاد الوطني نحو تنويع قاعدته الإنتاجية.
5. يمكن من خلال هذا الصندوق الجامع لضريبة السعودة، أن يتكفّل بدعم الشركات والمؤسسات التي تتجاوز فيها نسب السعودة المطلوبة منها نظامياً، عبر دفع جزء كبير من أجور العمالة السعودية المتجاوزة للنسب المحددة. كما يمكن أن تقوم بدفع كامل الأجر في بعض الحالات الخاصة للمؤسسات والشركات الناشئة في بداية تشغيلها، دعماً وتشجيعاً لها للاعتماد على الموارد البشرية الوطنية.
6. أن التدفقات الخارجة من (صندوق ضريبة السعودة) عبر منافذها المقترحة أعلاه، من شأنها أن تغلق تماماً الأبواب التي تدافعت عبرها الآثار السلبية اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وأية أبعاد أخرى سلبية النمط نحن في أشد الغنى عنها. والله ولي التوفيق من قبل ومن بعد.
(*) عضو جمعية الاقتصاد السعودية