الناس تفرح بأن هيئة الأمم العربية قد خصت اللغة العربية بيوم عالمي، وتذهب بعيداً بفرحها إلى أن هذا التخصيص هو اعتراف واحتفاء بهذه اللغة..
عني شخصياً لا أفرح بهذا؛ لأن اللغة التي أنزل بها الخالق العظيم لكل مَنْ خلق, وأوجد من الألسن في خلقه ما لا يحصى من اللغات, قد تخيرها لغة القرآن، وأنزل بها خاتمة الدساتير السماوية، وأول من أعجز بها قومَها وأهلها, ومن هي لسانهم, حين كانت السليقة نقية، والعقل لا يحتوي غير رموزها، ولا تتكون في مخارج اللسان غير كلماتها الجزلة العميقة, المعبرة الدالة, البليغة الناقلة، لحفيف ورقة في شجرة روية، أو خريفية جافة، ولصوت صدى يأتي بأحمال الريح، وآثار خطوة دابة, أو هامة، أو مواء عن عطش، أو زئير عن اقتحام، لخطيب يبهر بحجته، أو لمحارب يفحم ملوك الفرس والروم بحكمته، أو لخطفة برق تنذر بإمطار، أو لرعدة خوف تصفق في جوف..
لا أفرح للغة ديوانِِ أمة بلغت بعيداً بآدابها ومعارفها ومنجزاتها، واحتوت في ترجماتها كنوز المصادر الأولى لفكر الإنسان..
لا أفرح للغة أمةٍ هي مصدر حضارات هذا العالم الذي عنه أخذت أوروبا في نهضتها، واستلت منه علومها, وتسللت إلى مخابئها فعبّت واستتبت..
لا أفرح للغة انتقصها أبناؤها، فتخلوا عنها, وباعوها في أسواق نخاسة اللغات الأخرى, منها ما باتت في أصلاب ألسنة الصغار, ومحافل الكبار, وتباهي بها الأول والآخر، أمة طأطأت لتلك اللغات، وجعلتها مع اللقمة والكساء, والداء والدواء, والسكن والترويح، والفنون والاقتصاد, والقلم في اليد والكتاب في الجامعة، والمرفق الحيوي في اليومي، في الهاتف والمطعم، والنقل والسفر, وأجهزة الاستهلاك والعمل..
لا أفرح للغة استبدل بها سواها المتعلمون، والمتحدثون، دون حياء, وبلا خجل..
لا أفرح للغة ضعفت بأهلها.. فأغلبهم لا يعرف قواعدها, ولا معانيها, ولم يُزد في قاموسها إلا اجتهادات كما قطرة في بحور الأرض كلها, ولا تُتقن كتابتها في أوراقهم، ولا يُحسن خط حروفها في لوحات فصول تعليمها في المدارس، فكيف المتعاملون بها في الحياة..؟
لا أفرح للغة غدت بين أبنائها مصدر تخلف، وصورة تأخر, وسمة نمط تقليدي..؟
لا أفرح.. لأننا غدونا أمة تأخذ ولا تعطي، وتفرح بأخذها، وغدونا أمة تتبع ولا تُتْبع، وأمة تنقاد ولا تُقاد، وأمة لم تعد تُعجز بلسانها، وقد هُجرت مصادرها على سعة انتشار الموسومين بلسانها، وهزُلت في ثقافة ناشئيهم، وتراخت همم المتمسكين بها؛ إذ هم يعبون من معارف دنيوية، أول اسفين دكَّته في قوتهم هي هذه اللغة, المحتفى بها على استحياء..
كيف أفرح للغة الأولى التي اختارها الرب، وليس الإنسان لأن يتكرم الإنسان الآن فيمنحها مقعداً بين اللغات ليس هو الأول..؟
كيف أفرح وهي لم تعد لغة الأقوياء المانحين, المنتجين المتقدمين, بل هي لغة المتأخرين المقلدين، الراكضين وراء.. مهما كثر الادعاء، وتلونت الصور..؟ كيف أفرح وهناك مَنْ يقف عند عباراتها الجميلة, وبيانها البديع، وقوامها المتين, وصوتها العذب الجزيل، من أهل لسانها، فينكر على متقنيها كتابة أو ناطقيها منابرة، مدعياً غموضاً فيها, وهو الجاهل بها، ووعورة في مسالك درسها، وهو العاجز عن بلوغها، فالناقص في علومها..
كيف أفرح للغة أول ما يتذمر أبناؤها من الدارسين في المدارس من مقررات درسها؛ فهم لا يميلون إليها، لا رغبة ولا توجيهاً؛ لأن الأرواح منصرفة عنها، ولأن الانتماء بات غربياً رغبة وميلاً ووداً..؟ ولأن ما تكوّن عنها في حسهم أنها لغة تراث وقوم ليسوا في مقدمة الأقوام..؟
غير أنني أفرح فقط لأن هيئة الأمم بتحديد يوم لهذه اللغة قد أزالت الغبار عنها في ذاكرة أبنائها؛ ففتحوا محابرهم ليجدوها لا تزال نهراً عذباً، وبحراً جزلاً؛ فهي هذه اللغة، لا تزال محفوظة محمية، قادرة على أن تكون اللغة الأولى حين يستطعم حروفها وكلماتها وجملها أبناؤها, فيستطعمون التاريخ الذي اندثر، وعبق التقدم الذي تأخر..
أفرح حين يقدر محبوها والمحافظون عليها أن يبثوا الثقة في أبناء لسانها، ويتسللوا لقناعاتهم بمحجة إعجازها، ويرفضوا أن تُكتب كلمة في عقر دورهم بغيرها، أو أن تُقدّم ورقة بحرف في أي مرفق أو محفل أو أداء بغير حروفها, وأن يفرضوها لغة أولى للتعليم والعمل، في السفر وفي الحضر، وألا يوضع مؤلَّف ولا تقرير ولا مراسلات إلا بها، وإن كانت طبية، أو علمية بحثية، أو تجارية واقتصادية..
أفرح حين يكب المختصون على تحديث قاموسها والإضافة من بحر مهاراتها وقدرة مفرداتها على استيعاب منتج الإنسان ومنجزه، والاستفادة من نمائها بتحديث مصطلحاتها لتواكب الزمن، وتكون مصدر اعتزاز لا تخاذل، ووجه تباهٍ لا مداراة، ولسان تعبير واعتبار، لا حياء ولا إدبار..
أفرح عندما يكون لساننا هي، ولا نرتضي بغيرها لغة أولى، بل نقدمها بيننا على اللغات، وما نتعلمه أو نتقنه من لغات أخرى مهما أتقناها واستطعنا استخدامها لا تنزل في سطر المقارنة بها أو التنافس معها..
وللغة العربية من هم قادرون على ذلك, لا يحتاجون إلا إلى نهضة عزائم تتكاتف من أجل التنفيذ، لا يتوقفون عند إزجاء الفرحة، أو إقامة مؤتمرات حولها، ومن ثم النوم على أوراقها، بمجرد أن يخرج آخر فرد من قاعة البحث والنقاش والحماس في شأنها، ثم يطفئ نور المكان بضغطة على مكبس التيار ويمضي فيهدأ كل أمر في شأنها، إلا ما ومن انفرد وتفرد..!
فاللغة قوة، فلتكن، وإن تفردنا بقوة واحدة هي العربية فينا, على ألسنتنا، لا نستبدل بها في حياتنا غيرها.. نعلمها لأبنائنا لساناً عربياً مبيناً, لا ركاكة فيه ولا لحن، لا وهن يعتريه، ولا لجلجة..
أفرح كثيراً حينذاك..
حين توظَّف العربية في ألسنة قومها توظيفاً سليماً..
وإلا فلسوف أنشد جروحها مع حافظ إبراهيم ما حييت..