حضرت المرأة إلى مسرح إنتاج الخطاب متأخرة، لكنها أصبحت حاضرة بعد الغياب، ظاهرة بعد الخفاء، أحدثت إزاحة بائنة في الحضور الذكوري الطاغي والمتفرِّد، تتولى بنفسها القيام بفعل القول, والقول وفق مفهوم الجابري هو: مقولة الخطاب، فماذا قالت؟ وعلى أي هيئة جاء قولها؟
وحيث تُعد الكتابة أعلى درجات إنتاج الخطاب لأنها تتطلب وعياً ثقافياً وحساً قادراً على توظيف الأحاديث الشفهية العابرة والآراء والمعلومات المجردة في خطاب فكري يستهدف التأثير ويبحث عن السلطة بدافع الرغبة حسب مفهوم فوكو للخطاب, وهي العملية التي توصف بأنها العملية الأكثر تعقيداً.
تعلمت المرأة السعودية إثر قرار سياسي بُني على مطلب وحث اجتماعي عبر المقالات التي كتبها مثقفون إصلاحيون ووجدوا تفهماً من السلطة السياسية.. فاستجابت لهم وفرضت قرار تعليم المرأة على الرافضين الذين تذرعوا بالدين في رفضهم لحضور المرأة عبر التعليم وخروجها من مخابئها السرية إلى المدارس.
وقد كان من المعتاد ألا تخرج المرأة إلا إلى قبرها حتى إن الرافضين كانوا يطرحون أسئلة تخويفية ترهيبية مثل: من يضمن ألا تعود الفتيات من المدارس ببطون منفوخة تثير علينا غضب الله؟
خطاب يتذرَّع بالدين وحماية الأخلاق لتبرير رفض التغيير؟.. رفض حضور المرأة في المشهد العام!!
حين كتبت المرأة خرجت أكثر وحضرت أكثر، من البيت إلى المدرسة.. ومن المدرسة إلى الصحيفة حيث يظهر اسمها أمام الملأ، فلانة بنت فلان موجودة وحاضرة برأيها بقولها بحديثها، والمرأة كلها عورة حسياً ومعنوياً، اسمها أيضاً عورة؟.. حوصرت المرأة في خطابها الأول بالترصد والتخويف والبحث عن أي قرينة إدانة لإثبات الريبة.. ومن ثم الإقصاء، جاء خطابها محملاً بالترقب، دار حول موضوعات الأمومة والأمور الأخرى والأحلام الرومانسية.. وظلت تداور في فلك الإنشاء وثرثرة البسيطات عن وظائف المرأة البيولوجية!.. وحسب الناقدة النسوية ألين شوالتر فإن للنساء في مطلع كتابتهن تقاليد واحدة.. إذ تبدأ بالحديث المائل للثرثرة عن عالمها الخاص.. وتترك القضايا الكبيرة كالفروسية والحرب للرجال، بينما ترى الناقدة الاجتماعية روبين ليكوف أن على النساء أن يتمثَّلن قوة الرجل.. فالكتابة القوية ليست حكراً عليه.. وعلى المرأة أن تنأى عن خطابها الضعيف وتكتب بقوة تضاهي الرجال.. ومثل هذا يراه الغذامي في كتابه المرأة واللغة.. حيث يتطلع من المرأة أن تنحت لغة خاصة بها تضيف لها قوة وتميزاً ويمثل بنموذج لغة أحلام مستغانمي.
حين كتبت المرأة السعودية اكتفت بظهور اسمها.. وانشغلت برد الريبة عن نفسها بتكريسها لأنوثتها ومتعلقاتها حتى تقبل السلطة الاجتماعية بقاءها على مسرح عمليات إنتاج الخطاب.
الوسائل القمعيّة التي تمارسها السلطة الاجتماعية بواسطة الخطاب يتحدث عنها ميشيل فوكو بقوله: (إنها تعود إلى عملية التنظيمات الداخلية للخطاب نفسه، التي تقتضي في ظل ضروب من الإقصاء والاستبعاد بإقامة مساحات من الصمت، والإضمار، ومساحات من الإفصاح والإعلان، تحكم ما يجب أن يقال، وما يخضع للتحديد والكشف والابتكار، وما يتبع نظم التعقيب والتبرير، والتكرار، وذلك وفقاً لمعايير ضمنية من الخطأ والصواب والحقيقة والزيف، لعل أبرزها ما يتجلى من التحريات التي تنصبّ على موضوعات السلطة والجنس).
القرار السياسي استجاب للحاجة الملحة التي أبداها الإصلاحيون من المثقفين الوطنيين لضرورة رفع مستوى حريات التعبير.. وكان ذلك ظاهراً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، استثمرت المرأة السعودية ارتفاع سقف الحريات فاستحال خطابها إلى صوت قوي وعادل ينشد التغيير الذي يخلِّص المجتمع من الترهل الفكري والثقافي ويمنح المرأة حقوقها الثابتة لها شرعاً باعتبارها إنساناً كامل الأهلية له حقوق وعليه واجبات، الخطاب النسوي المستند على ثابت تشريعي يحقق المزيد من الانفراجات.. لكن كل تقدم يتحقق يلقى خطاباً مضاداً يجعل من قاضي محكمة يصر على جلب المرأة لمعرف مع أنها تحمل هوية وطنية صادرة من وزارة الداخلية تحمل صورة المرأة نفسها.. فهل تحتاج المحكمة بعد هذا إلى معرف لولا أن هناك محاولة لإعادة المرأة إلى المربع الأول من مشروعها الإنساني العادل بحجة حرمة كشف الوجه.. وحيث ندرك جميعاً أنه لا يمكن أن يخفى على شيخ في محكمة اختلاف الآراء في مسألة كشف الوجه.. لكن السلطة الاجتماعية تحاول وتناور وتتذرَّع بالدين في مقاومتها لحضور المرأة في مشهد الحياة العامة.