انتقلت الحضارة الإسلامية بعلومها وآدابها ومصنوعاتها، ومحاصيلها الزراعية وبعض تقاليدها ومظاهرها إلى أوروبا بوسائط عديدة ومن خلال ميادين واسعة، تمَّ عبرها اللقاء، وكثر الاحتكاك، فكان النقل والاقتباس، ومن أهم تلك الوسائط والميادين الميدان الاقتصادي.
فقد كانت الزراعة من الأمور الاقتصادية التي ازداد اهتمام العرب بها بعد الإسلام، وذلك نتيجة لدعوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى العمل بصفة عامة، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - فيما يتعلّق بالأرض والعمل الزراعي: (من أحيا أرضاً مواتاً، فهي له).
وفي العهد الأموي تمَّ إقامة السدود والجسور، وتجفيف المستنقعات، واستصلاح الأراضي، والاهتمام بالري ومشروعاته ووسائله. وفي العهد العباسي أنشئت إدارة حكومية تختص بالري عُرفت باسم ديوان الماء، وعظم أمر هذه الإدارة في المناطق الزراعية، مثل: العراق ومصر.
جاء في كتاب (دور الحضارة العربية الإسلامية في النهضة الأوروبية)؛ للأستاذ هاني المبارك، ود. شوقي أبو خليل: لقد كان تقدّم الزراعة عظيماً في الأندلس؛ حتى صارت حدائقها وحقولها ميداناً تتعلّم منه أوروبا بعض الطرق في الزراعة والري. ومن ذلك ما أدخله العرب إلى الأندلس من نظام المدرجات في الجبال والمرتفعات، ولا تزال آثارهم باقية إلى اليوم؛ من جسور، وقناطر أقامتها العرب.
كما نقلوا كثيراً من نباتات الشرق إلى أوروبا؛ حتى إن اسم الرُّمان باللغة الفرنجية مأخوذ من اسم غرناطة، المدينة التي زرع لأول مرة فيها بعد نقله من الشام.
وكثير من النباتات دخلت أوروبا عن طريق الأندلسيين، كالأرز، وقصب السكر، والمشمش، كما أن كثيراً من الأسماء العربية المتعلّقة بالزراعة اقتبسها الغرب من عرب الأندلس، كالناعورة والسُّكر، والأرز.
يقول أنور الرفاعي في كتابه (الإنسان العربي والحضارة): لا يزال الإسبانيون يطلقون على السد، والبِرْكة، والجِب، والساقية، والوادي أسماء محرّفة عن العربية.
وتؤكّد المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب): أن العرب أمدوا الغرب بأنواع من نباتاتهم المفيدة، مثل: الخيار، والقرع، والبطيخ، والسبانخ، والليمون، والخوخ، والكستناء، وقصب السكر، وبعض أنواع الورود، كما أمدوا الغرب بطرق الري المختلفة، وفنية استعمال الماء المتعددة التي برع فيها العرب خاصة كل البراعة.
وقد أشارت كثير من المصادر التاريخية إلى أن العرب المسلمين قد برعوا باستعمال النواعير وغيرها من الطرق؛ لرفع المياه من الأنهار والآبار؛ إذ استعمل المسلمون دواليب الماء (النواعير) والآلات المشابهة في كل مكان لرفع الماء من الأنهار.
ونتيجة لاهتمام العرب المسلمين بالزراعة ظهر اهتمامهم بعلم النبات، فترجموا الكتب النبطية وغيرها من الكتب، واقتبسوا منها ما رأوه معقولاً مفيداً فحسّنوا بذلك زراعة أراضيهم وأراضي الأقاليم التي فتحوها.
كما أدخلوا في الطب نباتات غير معروفة عند اليونان، وأنشأ عبد الرحمن الأول ملك قرطبة حديقة نباتية جمع فيها أصناف النباتات المختلفة من جميع البلاد مشرقها ومغربها، بل إن غرناطة كانت تشمل في القرن العاشر الميلادي حديقة عظيمة للنباتات.
وهكذا شعَّت الحضارة الإسلامية في مجالاتها الاقتصادية والزراعية على حضارة الغرب، وأمدتها بكثير من الإصلاحات والخبرات والمعارف المتميّزة.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية