لا أحد ينكر أهمية المؤتمرات وقيمتها، والندوات وأثرها، فهذه وتلك مما يثري المعرفة، وينير الطريق، ويرشد إلى أفضل الحلول وأنجعها، وأسهل الطرق وأخصرها، لاسيما عندما يتبين أن الجهود التي بذلت، والحلول التي اتبعت، والإجراءات التي اتخذت، لم تجد نفعا، ولم تؤت ثمرا، ولم تغير واقعا، عندئذ والحال هذه لا ضير أن تعقد المؤتمرات والندوات، للحصول على مزيد من المعلومات والاقتراحات والتوصيات العملية التي تعين على مزيد من التفعيل، وتساعد على الإنجاز.
ومن طبائع الأمور ومسلماتها، ومن سنن الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير، أن طبيعة الحياة البشرية في هذه الدنيا لا تبقى على نمط واحد، بل تتبدل سبلها، وتتغير أنماطها، وتتجدد أساليبها، وهذا مما يكسب الحياة حيوية وبهجة، وسعادة وأنسا، فلو أن الحياة بقيت على نسق واحد، لمل الإنسان منها وسئم، وظل يراوح مكانه، كما بقيت المخلوقات الأخرى، لكن من نعم الله على الإنسان أن جعل حياته متغيرة متجددة، سواء في ذاته، أو في العناصر الكونية المحيطة به، وزوده بعقل يمتلك مقومات التفكير والتدبر والتأمل وكل العمليات التي تساعد على الإبداع والابتكار، لهذا تنوعت الخبرة البشرية، ونمت وتراكمت حتى غدت سمة مميزة للإنسان عبر تاريخه الثقافي.
في هذا الزمن، وكما في كل الأزمان، تجد في حياة الناس الكثير من المتغيرات والمستجدات التي قد تعوق جهدهم وحركتهم، أو تحد من نشاطهم وفعالياتهم، أو تفسد عليهم طموحاتهم وآمالهم، أو تجعلهم يراوحون مكانهم، أو يتراجعون إلى مستويات أدنى مما كانوا عليه، أو تهدد حياتهم وتعكر صفوها، أو يتوهون في غياهب الخيارات، كل هذا وغيره يعد من المسوغات المنطقية التي تحتم البحث عن المعلومة التي تنقذ، والطريقة التي ترشد، والجديد الذي يهدي، والمنهج الذي يفضي إلى أنجع الطرق وأفضلها للوصول إلى الغايات بأعلى درجة ممكنة من الجودة والإتقان، هذه أمور يدركها العقلاء ويفهمونها.
لكن عندما تكون ملابسات المشكلة وأسبابها أوضح من الشمس في رابعة النهار، فما الداعي لعقد المؤتمرات، وإقامة الندوات، وإنفاق الأموال وإضاعة الأوقات، لاسيما وأن ما سوف تتمخض عنه المؤتمرات والندوات معروف سلفا، قائمة من التوصيات الإنشائية المستهلة بكلمة « ينبغي «، مجرد كلام منمق ينتهي إلى الرفوف التي سبق أن ملئت بما لا يمكن حمله من مثل هذه التوصيات الفضفاضة، التي يتعذر التعامل معها في الواقع، إما لغموضها أو لعدم منطقيتها، فمثلا، ما الداعي لعقد مؤتمر عن «الحوادث المرورية» أو «ضعف الطلاب في القراءة» أو «ضعف الطلاب في الإملاء» أو التحصيل الدراسي عموما، أو عن المخدرات، أو غيرها من المشكلات الاجتماعية أو التعليمية البينة أسبابها، والتي يعد البحث فيها مضيعة للوقت، وترسيخا لجذور المشكلة، وتعزيزا للمزيد من الفشل.
بطبيعة الحال لا يخلو أي مجتمع بشري من وجود مشكلات، والفرق بين هذا المجتمع وذاك هو في كيفية مواجهة المشكلات والتعامل معها، المجتمع العربي يتعامل مع المشكلة صوتيا فقط، الكل يجيد إجادة تامة طرح الأفكار، وتنميق الكلام، والتحليق في فضاءات المعرفة، لكن كل هذا لا يعدو عن كونه جعجعة تطرب السامع، ولا تتعدى الحناجر، أو الأوراق التي سطر فيها الكلام المنمق الإنشائي الذي غالبا ما يتعذر التعامل معه وتطبيقه في الواقع.
الكلام سهل هين، والكل يحسنه ويتقنه، والعمل صعب شاق، وقليل من يتصدى له ويبدع فيه، وهنا يبدو التحدي، لهذا وخشية من الفشل، يلجأ الكثيرون إلى المبادرات الكلامية، وإلى صياغة العبارات الجميلة، ولكن حال هؤلاء كمن يحصد الهواء، الواقع يئن ويقول بصوت عال: أنا بحاجة ماسة إلى رجال قليلي الكلام، كثيري الفعال، هؤلاء أريد، فأينهم؟.
إن الواقع يحتاج إلى مشروعات عمل، قابلة للتنفيذ والتطبيق لا إلى جعجعة الكلام وبريق الدعايات الكاذبة التي لم يجن منها إلا المزيد من الفشل.