كنت قد كتبت مؤخراً في هذه الجريدة (5 ذي الحجة1431 هـ، الموافق 11 نوفمبر 2010 م) عن عصر الإعلام والمعلوماتية الذي تتجدد تقنياته بسرعة هائلة، جعلت من سلطة المعلومات وقنواتها الإلكترونية متغيراً رئيساً في فَهم
موازين القوى ومصادر التأثير. وكان الشاهد الرئيس فيما كتبت هو نفوذ مصادر المعلومات الإلكترونية واتساع نطاق تأثيرها وقوته، بالتركيز على موقع الويكيليكس Wikileaks وتأثيره على الحكومات القوية والتابعة على حد سواء. ومهما قيل عمن يقف وراء هذا الموقع ويدعمه، وطبيعة أهدافه، ومصداقية ما ينشره من وثائق فإن ما حصل من تسريبات للوثائق قد أحدث هزة قوية في البناء المعلوماتي للدول التي كانت تتحصن بسلاح المعلوماتية نفسه.
وحيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة الشرق الأوسط وقضاياها هي الأطراف الرئيسة في مضمون ما تسرب من وثائق فإني أقف هنا أربع وقفات عاجلة تنظر إلى بعض ما خلفته نتائج إعصار الويكيليكس من آثار، وما كشفته من حقائق:
أولاً: تهافت شعار حرية الرأي والتعبير الذي طالما ادعت الولايات المتحدة ممثلة في دستورها ونظمها وسياسييها وإعلامييها تقديسه والدفاع عنه، ونالوا من سيادات الدول والمجتمعات بذريعته. فها هي الولايات المتحدة الآن تحاول تشويه حقائق ما تسرب من وثائق، وتطارد مؤسس الموقع وتحاكمه، وتنتفض مدافعة عن تكميم الأفواه، وبعض كبار كُتّاب الصحف الأمريكية لا يزال يحاول ويراوغ ويدعي أن الوثائق المسربة إنما تؤكد تطابق سياسة الولايات المتحدة في السر والعلانية، مستشهداً هذا البعض بموقفها من إيران وامتلاكها للسلاح النووي، وهو اجتزاء للأحداث أريد له أن يكون شاهداً على الكذب والنفاق.
ثانياً: إن سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وبخاصة تجاه قضايا دول الشرق الأوسط والعالم الثالث، إنما تدار من خلف الكواليس، وفي الغرف المغلقة، وأما التصريحات الإعلامية التي تلي انتهاء نشاطاتها في المنطقة إنما هي من أجل التعمية على الرأي العام. وقد استأثر مصطلح (التجسس) أو (الجاسوسية) على مضمون كبير من الوثائق التي سربها موقع ويكيليكس، حتى ليخيل للمتابع أن العالم تحكمه (إمبراطورية التجسس)، التي وصلت إلى كل رمز سياسي أو اقتصادي أو علمي يمكن أن يحقق التجسس عليه منفعة لأمريكا. نحن - إذن - أمام رؤية جديدة لمنهج سياسي جديد أكدها موقع ويكيليكس، تقوم على شعار: (الميكافيلية الجاسوسية)!!
ثالثاً: لا تزال الأدوار التي يقوم بها الطابور الخامس تتجدد في كل زمان ومكان. والمنتمون لهذا الطابور هم أشد على الأمم والمجتمعات من أعدائها؛ إذ هم يقوضون الأمم من داخله، ويأتون على البناء من قواعده. فكثير ممن سرب الوثائق التي أضرت بسياسة الولايات المتحدة، وهددت مصالحها، وشوهت صورتها، وأثارت حفيظة الغير عليها، هم من الموظفين الذين يعملون، أو كانوا يعملون، في السفارات والقنصليات والبعثات الدبلوماسية الأمريكية في مناطق كثيرة من العالم. هذا الأسلوب هو الذي استخدمته الولايات المتحدة - ولا تزال - في تحقيق سياستها ومصالحها القريبة والبعيدة، وها هي الآن تجني ثمار هذا الأسلوب وتقع في شر أعمالها. فلطالما جندت أمريكا طوابير متنوعة لخدمة أهدافها، والتحق بهذه الطوابير جحافل من المخدوعين الذين يسبحون بحمد الولايات المتحدة، ويروجون لشعاراتها ومثلها وقيمها وأفكارها، فكانوا - على تعاقب الإدارات الأمريكية - مطية للنيل من سيادة دولهم ومجتمعاتهم، وأدوات لتقويض بنائها السياسي والقيمي. والشواهد في ذلك كثيرة تقصر عن الحصر، ويعرفها من يملك أدنى مستويات الفطنة.
رابعاً: تفاخر الولايات المتحدة بأنها رائدة أمن المعلومات الذي بنت عليه نهضتها، وقامت عليه مصالحها، ونفذت بسلاحه استراتيجياتها. وكانت إلى وقت قريب تظن أن تسيدها وهيمنتها على (عصر المعلوماتية) هو سر قوتها وجبروتها، الذي قوضت به دولاً، وهدمت به نُظماً، وأرعبت به مجتمعات، وعززت به أساليب الظلم والعدوان والتجبر والاستكبار حتى أتاها العذاب من مصدر قوتها، فإذا بها ترعد وتزبد، وتنتفض خوفاً ورعباً من قصف أتاها من قواعدها نظير مكرها واستعلائها، وكأن المتابع منا لتطورات ما يجري يقرأ في هذه الأحداث قول الحق تبارك وتعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ}، وقوله عّز وجل: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ}، وقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ}.
في معاني هذه الآيات من القرآن الكريم تتبين سنن الله في الذين خلوا من قبل، ممن استكبر وعلا وتجبر حتى أتته العقوبة من مأمنه. وهي سنن ماضية على اختلاف في العقوبة بما يناسب الحال والزمان: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}.
* أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الإمام محمد بن سعود