على الرغم أن مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي لا يُعد من المصطلحات الجديدة؛ إلا أنه ما زال يثير «العديد من التساؤلات بين صفوف المواطنين الاقتصاديين ورجال الأعمال والمثقفين وحتى المواطن العادي على حدٍ سواء، حيث إنه يقوم على التكافل الاجتماعي والتمتع بضمانات اجتماعية كالتعويض ضد البطالة والتأمينات الصحية وبرامج التشغيل والتأهيل الحكومية.
فجوهر اقتصاد السوق الاجتماعي هو (تدَّخل الدولة لتوجيه بعض الإنفاق والاستثمار لتلبية الاحتياجات الاجتماعية وتقليل الفروق الطبقية وضمان الاستقرار الاجتماعي باعتباره الأساس المادي للانطلاقة الاقتصادية)، كما أنه يقوم على فكرة التفاعل بين الأسواق وحركتها والدولة وتوجهاتها، لا سيما أن السعر لا يُعبًّر دائماً عن القيمة في ظل عدم مراقبة الأسواق، فإذا زاد العرض قلّ السعر والعكس صحيح؛ لذا تسعى الدولة ممثلة في الحكومة للتدخل لإعادة التوازن سواء من خلال القوانين والأنظمة أو من خلال قدرتها الإنتاجية والتسويقية، ولكن في ذات الوقت يجب أن تكون درجة التَّحكم والتدَّخل مدروسة بدقة ومراعية لاقتصاد السوق بأشكاله وأنواعه المختلفة.
ومن ثمَّ نرى أن مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي يدور حول إيجاد طريق ثالث بين الاقتصاد التعددي؛ الذي تلعب الدولة فيه دوراً ريادياً واجتماعياً، والاقتصاد الليبرالي؛ أي اقتصاد السوق الحر ونمذجة القدوة، كما يرتكز على ثلاثة أسس هي:
o سيادة المنافسة أي منع الاحتكار من أي مصدر كان؛ لأن الاحتكار دائماً يؤدي إلى الركود ويعطل إمكانية استخدام كل الطاقات الكامنة.
o خلق نوع من تكافؤ الفرص بين الهيئات والفعاليات الاقتصادية المختلفة والحد من القدرة على الاحتكار، و سيطرة أقليات على مقاليد الأمور الاقتصادية.
o تَدَّخل الدولة عندما تعجز آليات السوق عن تأدية دورها.
و اقتصاد السوق الاجتماعي لا يٌعد مصطلحاً جديداً ، بل ظهر في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ، بينما تختلف تطبيقاته حسب طبيعة الدولة ، حيث نجد أنه يأخذ شكلاً في اليابان يختلف جوهرياً في مضمونه عما طبق في ألمانيا، ففي اليابان جرى التركيز على التزام الشركات الخاصة بتثبيت العاملين والمستخدمين فيها مدى الحياة، وفي ألمانيا اتَّخذ شكلاً آخر لتدخل الدولة؛ حيث راعى التوجه من ِقبل الشركات الخاصة لتبني «الإدارة المشتركة، أو المسئولية المشتركة»، وتأمين تفاهم أرباب العمل مع النقابات بشأن سياسة الأجور .
وقد سمى في الصين اقتصاد السوق الاشتراكي ، بينما أطلق في الكثير من الدول الأوروبية تحت مسمى «الاقتصاد الاجتماعي للسوق».
وهنا نطرح تساؤلاً مهماً ،هل من الممكن تطبيق هذا النموذج في الدول العربية التي تعاني حالة من التردي والركود الاقتصادي كوسيلة للخروج منها أم أنه كسابقيه من النماذج لا يصلح للتطبيق في الدول النامية بصفة عامة والعربية بصفة خاصة ؟
وهذا يقودنا إلى تحليل اقتصاد السوق الاجتماعي وتحديد مدى ملاءمته للحالة العربية :
أولاً : اقتصاد السوق الاجتماعي يحتوي على دور مختلف للدولة وهذا لا يعني أن الدولة ليس لها دور؛ ولكن دورها مختلف عما هو عليه الحال في الاقتصاد التعددي، فهو راعِ فقط للقضايا الاجتماعية، وموجه لمسارات العملية الإنتاجية ونواحي التنمية البشرية والتكنولوجية، كما أنه يعد أداةً لمحاربة الفساد وإعادة تدريب القوى العاملة وتأهيلها لمشاريع استثمارية جديدة عن طريق التدريب التمويلي بدلاً من تسريحها تعسفياً بصفتها أحد أسباب الركود والخسارة، إلى جانب استمرار دور الدولة في مراقبة آليات السوق والتدخل عندما يعجز الاقتصاد الحر عن تأدية مهمته بما في ذلك تسوية المشكلات الاجتماعية والانحياز لتحقيق مكاسب للطبقة العاملة.
ثانيا : اقتصاد السوق الاجتماعي هو اقتصاد توافقي ؛ حيث إنه يجمع بين نقيضين هما :عدالة اجتماعية أكبر وفعالية اقتصادية أكثر، وهذا يتطلب سياسة اقتصادية واضحة ومرنة تنطلق من مصلحة المواطن، وجوهر اقتصاد السوق الاجتماعي هو محاولة للجمع بين قوانين الاقتصاد الحر كما عرَّفتها الرأسمالية وبين مبادئ تناقضها ومن ثمَّ تتعلق بالجانب الاجتماعي في النظام الاشتراكي، حيث تحتل مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والضمانات الصحية والتعليمية المرتبة الأولى في سلم الاهتمامات.
ثالثاً : لفظ الاجتماعي المرتبطة باقتصاد السوق الاجتماعي تعني عند الألمان التعويض ضد البطالة والتأمينات الصحية وبرامج التشغيل «التأهيل الحكومية»، إلا أنها قد تعني في معظم الاقتصاديات العربية البيروقراطية دون مراعاة للجانب الاقتصادي منها، تمويه لأشكال الضبط البيروقراطية للسوق والاحتكار السلطوي للفساد والنهب.
رابعاً : إن نجاح تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي في تحقيق النمو الاقتصادي للدول العربية مرهون ببعض الشرط لتحقيق التوازن المطلوب فمعظم الاقتصاديات العربية تعاني انخفاض معدل النمو الاقتصادي ، وازدياد معدلات البطالة ، ومعدل النمو السكاني ، ومن ثمَّ انخفاض مستوى الدخل القومي والدخل الفردي، وسوء توزيع الثروة، والفساد، والبيروقراطية، وتردي الواقع الخدمي؛ مما يعزز الحاجة الماسة للتطبيق، وهذا ما حدث في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، ومن ثَمَّ تحولت خلال أقل من ثلاثة عقود، إلى ثالث قوة اقتصادية عالمية ولكن في ضوء توافر الآتي :
وجود دولة قوية قائمة على المؤسسات والمساءلة، وتحكمها بنية تشريعية تصون الحقوق وتحضُّ على الواجبات، وأجهزة تنفيذية تتميز بالكفاءة والنزاهة.
دولة لديها رؤية بعيدة المدى ترسم ملامح المستقبل المأمول ، وبرنامج اقتصادي واجتماعي بأهداف محددة واستراتيجيات واضحة تقود إلى الأهداف ، ومقدرة على التدخل المباشر وغير المباشر في الوقت المناسب، بغرض التصحيح والتنسيق والتفعيل.
مقدرة الحكومة على تأمين التوازن بين احتياجات الفئات الاجتماعية العاملة بأجر للتمتع بحياة كريمة من ناحية، وبين متطلبات الاقتصاد الوطني للمحافظة على قدرته التنافسية من ناحية أخرى.
وجود تكافؤ في القوى بين الفئات الاجتماعية العاملة بأجر، وبين الفئات الاجتماعية التي تحصل على دخولها من عوائد الرأسمال، واستعداد كل الأطراف لقبول التوافقات، والتعهد بتنفيذ الالتزامات التي ارتبطت بها، وذلك لضمان نجاح تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي في تحقيق النمو الاقتصادي للدول العربية ؛من أجل الإسراع بعجلة التنمية وتصويب مسارها بدور رعوي لتوفير الرعاية الاجتماعية لذوي الدخل المحدود بما يمكّنهم من التمتع بحياة كريمة لائقة .