تعد اللغة بلا جدال وعاء العلم وهي وسيلة تواصل بين أفراد المجتمع الواحد، ومما لا شك فيه أن لغتنا العربية أسمى اللغات وأروعها، كيف لا؟ وهي لغة الذكر الحكيم الذي يعد معجزة رسول الثقلين الجن والإنس عليه الصلاة والسلام التي أبهرت أساتذة الفصاحة وجهابذة البلاغة وسادة العرب قريش العدنانية، حيث زادت لغتنا شرفاً بتنزيل القرآن الكريم بأحرفها وزادها شرفاً آخر هو خلودها كونها حملت مضامين ذلك الشرع الحكيم وكلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقال عزَّ من قائل حكيم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وحفظ القرآن الكريم حفظا للغته العربية، وقد دأب العلماء منذ القرون الأولى وتعاقبوا على العناية باللغة والتأليف في فنونها الجميلة كفقه اللغة والبلاغة والنقد والأدب بشقيه شعراً ونثراً وعلم العروض وغيرها وعلم القراءة وفن الإنشاء، وفي القوت عكف كثير من أعداء الدين على أن يدخلوا إلى لغتنا ما يفسدها من لحن بغية الوصول لهدفهم الأعلى، وهو التشكيك في عقيدة المسلمين؛ لينغلق عليهم فهم دينهم الحنيف، وقد تحطمت أحلامهم قبل أن ترى النور بفضل الحفظ الخالد لها من قبل البارئ الحكيم سبحانه، وقد أثبتت لغتنا الرائعة أنها منبع العلوم الشرعية والمادية من خلال نتائج الأبحاث والدراسات التي أجراها علماء غربيون وغيرهم، لتعلن أن ما اكتشفوه وما يكتشفونه قد ورد في الذكر الحكيم وفي السنة المطهرة قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، وللأسف الشديد لم يكن التعدي من قبل الغرب فحسب، بل كان من بعض بني يعرب أنفسهم، وقد وصف ذلك أمير الشعراء أحمد شوقي حالة الجفاء بينها وبين بنيها متحدثاً بلسانها حين قال:
رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي
رجالاً وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية
وما ضقت عن آي به وعظاتي
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
هذا حال اللغة في عصر ازدهر فيه العلم والأدب فكيف به في عصرنا هذا؟ الذي أصبحت معايير التحضّر هو التشدق بلغات أجنبية، ومحاولة تبوئ اللهجات المحلية مكانة من خلال اعتمادها في كثير من الفنون في الإعلام وغيره إلا ما ندر؛ لتضايق اللغة الأم الخالدة والتي تمثل جوانب حياة المسلمين في جوانبها المختلفة، وستظل اللغة بالإضافة إلى ما ذكر وشيجة تربط أبناء يعرب بعضهم ببعض، وإن بعدت المساحات وتفرقت الأجساد، ولو أطلقت ليراعي العنان عن وصف دررها الحسان، وسماتها العظام لطال الكلام وامتد بنا المقام.