يُعرف العبقري بأنه إنسان يمتلك ميزات عدة كالذكاء والتنبؤ والمعرفة.. ويسخِّر هذه المميزات فيما يخطط له ويعمل على إنجازه قولاً وفعلاً، بأساليب علمية غير تقليدية، كما أنه لا يتوقف عند الحد الذي وصل إليه من النتائج.. بل يتعدى ذلك إلى أن يطور ويزيد في الإبداع وبشكل دائم وبوضع مستمر، بأساليب تراعي الأوضاع وتحسب وتراعي للمجتمع والبيئة الحقوق والواجبات.
وعلى هذا يقول هاريس إن العقول البصيرة المتوقدة هي العقول العبقرية.. ومنشأ هذه العبقرية يرجع إلى سرعة الانتقال في العمليات العقلية.. ويزيد هاريس في القول بأن العبقرية هي قدرة عقلية تعتمد على الإدراك والتركيز والتحليل، لذا فإن العبقري هو النافذ الماضي الذي لا شيء يفوته.
ومن أجمل ما قيل في العبقرية من تعريف قول «محمد فريد وجدي» بأنها (هبة إلهية ثمرتها فوق القدرة البشرية يمنحها الله لبعض الأفذاذ لتبرز على ألسنتهم أو على أيديهم أمور لا يستطيع العقل البشري أن يستقل بإيجادها).
ولو أسهبنا في تعريف العبقري والعبقرية لطال بنا المقام.
وإنني أيها الإخوة كلما مررت على تعريف من تلك التعاريف التي ذكرت آنفاً - أو التي لم يتسع المقام لذكرها - تطوف صورة الملك عبدالعزيز في خيالي، فتأتي صورته - سبحان الله - شاخصة واضحة وأراه فيها بهيبته وعظمته واقفا شامخاً.. ولا شك أو ريب في أن الملك عبدالعزيز من ضمن أولئك العباقرة الذين يرد ذكرهم حين يتحدث عن العباقرة، ويضرب به مثلاً عليهم.
وإني أدعوكم أعزائي القراء لتشاركوني إعادة قراءة تعريف الكاتب والمفكر محمد فريد وجدي ولنثبِّت صورة الملك عبدالعزيز في أذهاننا أثناء قراءته، حينها سيتبين لنا أن الكاتب كأنه يصف ويتحدث عن المؤسس طيب الله ثراه، عن هذا الرجل العظيم، فعبقرية جلالة الملك عبدالعزيز هبة إلهية منحها ربي له واصطفاه بها ملكاً موحداً ومؤسساً، كونه من الأفذاذ، فبرز على لسانه وعلى يديه أفعال ومعجزات لم تكن في بال وعقل من عاصروه وكانوا معه، وهي - في الحقيقة - ثمرات فوق القدرة البشرية جاءت بتوفيق من الله وعون.
لذا تصف الشاعرة المبدعة نجاة الماجد إنجازات جلالة المؤسس فتقول:
عبدُ العزيزِ سقى الفيافي قوّةًً
وأزاحَ ليلَ الظُلمِ والعدوانِ
أرسى على شطِّ الأمانِ سفينةً
دستورها هديٌ من القُرآنِ
عبدُ العزيزِ بنى صُروحَ حضارةٍ
في دولةِ الإسراءِ والإيمانِ
قادَ الصفوفَ إلى المعالي فاتِحاً
أرضَ الرياضِ بِجُندِهِ الشُجعانِ
ومضى يصوغُ من النجومِ مشاعلاً
ويضُمُ نجداً معْ رُبا جازانِ
وإلى ديارِ العِزِّ ضمَّ حِجازها
والساحلينِ وأقدسَ الأركانِ
وجبالَ أبها والخميسَ وباحةً
وديارَ حاتِمْ معْ قُرى نجرانِ
عبدُ العزيزِ الشهمُ وحّد دولةً
فغدتْ تضوعُ بِذِكرِهِ الفتانِ
والتمّ شملُ المجدِ في منظومةٍ
وشعارُها نخلٌ مع السيفانِ
ستظلُ يا صقرَ الجزيرةِ خالداً
في صفحةِ التاريخِ والوجدانِ
ولكل عبقري في تاريخ البشرية أفعال وأقوال تدل عليه وتشير لما يتمتع به من تلك العبقرية والقدرة التي وهبت من الله عز وجل، وزيادة على هذا فقد يأتي من يصف تلك العبقرية ويؤكدها ويؤلف المؤلفات فيها، وذلك بعد أن سمع عنه الأقوال وشاهد منه الأفعال أو عبر مقابلة أو جلسة أو حوار مباشر مع تلك الشخصية الفذة، ذلك الحوار وتلك الجلسة دلت وأعطت براهين ناصعة على العبقرية والعقلية الأخَّاذة.
وعلى هذا فإن من وصف عبقرية الملك عبدالعزيز من شتى البقاع كثر ولا يمكن حصرهم، وذلك كونه شخصية لوى إليه الأعناق بسجاياه الفاخرة، وما انفكت الأضواء مسلطة عليه لا تبارحه ولا تنزاح عنه لشح أمثاله وقلة أقرانه، فهو مبهر في تفكيره ومبهر في تطلعاته ومبهر في تخطيطه ومبهر في إقدامه ومبهر في عزيمته وعصاميته ومبهر في طيب نفسه حين ينسب كل ما أنجز لله ثم لآخرين شاركوه مشاركة لا تُذكر ولا يُعتمد عليها، ولكنها شخصية القائد الذي يمنح الثقة لأتباعه، ويعمل على النهوض بهممهم ليبلغوا معه عنان السماء.. ويحققوا كل ما يريدون بعد الاعتماد على الله سبحانه.
ولا يمكن في هذا المقال أن نأتي على جميع من وصف الملك عبدالعزيز في عبقريته وتميزه على سائر الملوك والحكام، ولكننا سنعرض - دون ترتيب تاريخي - لبعض من ذكره وأتى على سيرته، فهذا محمد لطفي جمعه - رحمه الله - يتحدث في كتابه الأيام المبرورة في البقاع المقدسة عنه، وذلك في ثنايا الكلام عن حرص موحد الجزيرة على تعزيز الوحدة العربية فيقول: «لقد أثبت الملك السعودي أنه من أكثر الملوك اعتصاماً بالعقل والروية، وقد يرى الآفاق البعيدة بما جمعه الله له من مواهب ما لا يرى غيره، ولذا رأيناه يتغلب على العقبات الكأداء في سبيل الوحدة العربية.. وله في خدمته الهمة القعساء واليد البيضاء» أ.هـ
نعم... كان الملك عبدالعزيز - والشواهد كثيرة على هذا - يرى الآفاق البعيدة ويخطط خططاً بعيدة المدى لا يعيها إلا من هو حاد النظر يملك ذات الحس الذي يملكه، وكان - طيب الله ثراه - يعمل للغد بحنكة وعبقرية ونظر إستراتيجي فريد ونادر، لكنه ليس المقصود هو الغد القريب.
في كتاب التكملة من مذكرات صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله بن الحسين والتي نُشرت عام 1951م يقول ملك الأردن الملك عبدالله بن الحسين: «ولا بد لي من التحدث عن شخصية الملك عبدالعزيز في أثناء زيارتي لجلالته، فأنا أقر بأن جلالته من دهاة العرب في العصر الحاضر، حلو المعشر، أسحل الصوت.. لطيف الكلمات والجمل، وهو سعد النزيل، ومكرم الضيف، رزقه الله ما شاء من البنين والحفدة، ومهَّد له كل ما أراد» أ.هـ، ويقول الناشر لكتاب عباس محمود العقاد مع عاهل الجزيرة العربية في كلمته عن الكتاب: «وحين أُتيحت لعباس محمود العقاد أن يرافق الملك عبدالعزيز في زيارته لمصر»، إلى أن قال: «وقد يسرت له تلك الرحلة الاتصال عن كثب بعاهل الجزيرة العربية ومجالسته ومحادثته فعرف كثيراً من مزاياه ووقف على سر عبقريته في بناء دولة وتأسيس مُلك وطيد الأركان» أ.هـ، وعليه فقد وصف العقاد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - بأن قال: «إن ابن سعود من أولئك الزعماء الذين يراهم المتفرسون المتوسمون فلا يحارون في أسباب زعامتهم وعظمتم ولا يجدون أنفسهم مضطرين أن يسألوا: لماذا كان هؤلاء زعماء؟.. لأن الإيمان باستحقاق هؤلاء لمنزلة الزعامة في أقوامهم أسهل كثيراً من الشك في ذلك الاستحقاق» أ.هـ
وجاء في مقدمة كتابه الإمام العادل صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل سيرته - بطولته - سر عظمته «السيد عبد الحميد الخطيب الوزير المفوض والمندوب فوق العادة للمملكة العربية السعودية لدى حكومة باكستان: «أما بعد: فقد كتب الناس كثيراً عن جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود وعددوا آثاره وأظهروا مفاخره وصفاته، ولكنهم لم يتعرضوا لسر عظمته وحقيقة أمره، فتكلموا عنه كملك سعى للمُلك فناله، ووطد بعزمه أركانه، ووافاه الحظ فأعلى بنيانه، ولم يدركوا ما تنطوي عليه النفس الكريمة من إيمان وتقوى، هما في الواقع السبب المباشر لكل ما تم على يده من الأعمال، وما نالته البلاد السعيدة من تقدم وهناء.
لذلك رأيت أن أكتب عن جلالته من هذه الناحية ليتخذ الناس من سيرته مثلا أعلى في هذه الحياة، ولمثل هذا فليعمل العاملون» أ.هـ
لقد شعرت بالفخر والاعتزاز ولهجت بالدعاء للملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - (لهذا الاستثناء من الملوك)، حين قرأت وصف الدكتور الهولندي فان در مولين في كتابه الملك ابن سعود والجزيرة العربية الناهضة، الذي يقول فيه «إن الرجل الذي نتناول سيرته في هذا الكتاب إنسان كبير، ولد رئيساً بدوياً، ولم تكن الرئاسة هدفه ولكنه لفت نظر كثير من الناس، في كل العالم، إليه وإلى وطنه وإلى دينه.. كيف يمكن تفسير ذلك؟ هل وجدت سمة استثنائية في كل العوامل الثلاثة: القائد ووطنه وإلى دينه.. على حد أنها لفتت نظر العالم الذي كان منهكاً في همومه اللا نهائية ومحتكاً بضوضاء متشائمة إلى ما حدث في (جزيرة العرب)؟.. نعم.. بدا أن (ابن سعود) رجل لا يولد مثيله إلا مرة واحدة فقط خلال عدة قرون.. فهو يُعتبر من كبار الشخصيات، نظراً لما أنجزه في (جزيرة العرب).. حيث بنى مملكته الكبيرة (المملكة العربية السعودية)».. حتى قال: «وعادة تظهر الشخصيات الكبيرة في تاريخ العالم متى ما تغير هذا التأريخ أو بدأت فترة جديدة» أ. هـ.
وازدد معي فخراً وخيلاء حين تقرأ ما جاء في الفصل الحادي والثمانين من كتاب سيد الجزيرة العربية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود للكاتب آرمسترونج والذي ترجمه البروفيسور يوسف نور عوض حيث قال: «أصبح ابن سعود سيد الجزيرة العربية بفضل شخصيته وفعالية سيفه، فهو رجل عظيم بمعنى الكلمة، يمتلك حيوية وسطوة، وهو عملاق أنجبته الجزيرة العربية بكل ما فيها من فوضى».. ويقول عن المؤسس - رحمه الله - أيضاً: «وكان هو يؤمن بأن الله قد هيأ له أن يقود العرب من جديد على مواطن عظمتهم السابقة حيث لا تعلو كلمة غير كلمة الله سبحانه وتعالى» أ. هـ.
وأختم مقالي هذا بكلام نفيس للأستاذ عبد الله بن حمد الحقيل (أمين عام دارة الملك عبدالعزيز سابقاً) قاله في كتابه توحيد المملكة العربية السعودية وأثره في النهضة العلمية والاجتماعية، حيث قال: «وما زالت السيرة التاريخية للملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - مثار دهشة ومحل إعجاب لعدد كبير من المؤرخين والباحثين والدارسين، فهي ميدان خصب للدراسات في مجالات شتى، فالأعمال والإنجازات كانت عملاً عظيماً، تكوَّن منه تاريخه وسيرته الزاهية.. لقد كتب الكثيرون عن تاريخ جلالته، وجوانب من شخصيته وانتصاراته، ومع ذلك لا يزال هناك جوانب عديدة من شخصيته وتاريخه لم تبرز بعد بالقدر الكافي، فقد كان - رحمه الله - قائداً عسكرياً فذاً ومصلحاً وداعية وسياسياً محنكاً، حقاً.. فما زال تاريخه يحفل بالعبرة والتجربة الثرية، ولا تزال صور البطولة فيه أبرز الصور وأبهرها وأكثرها أسراً للنفس» أ.هـ.
وهكذا حلقنا سوياً في سماء عبقرية مؤسس الوطن وباني مجده، ووجدنا عطوراً لزهور نبتت في بستان الموحد ومُرسي دعائم النهضة وحقوله الخضراء الباسقة، ورأينا القاصي والداني يستمتع بعبق ذلك البستان وتلك الورود، فنرى من ينشد أشعاراً ويعزف أنغاماً، يردد معها كلمات الإعجاب والحب والاحترام لصاحب الجلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ولا يزال العالم ينظر لحكامنا وولاة أمرنا أنهم ورثة المؤسس في عبقريته ورجاحة عقله وصفاته القيادية ورحمته بشعبه.. صغيرهم وكبيرهم.. ذكرهم وأنثاهم.أ غنيهم وفقيرهم.
فالله نسأل أن يديم عز بلادنا وسؤدد حكومتنا وشموخ وطننا، اللهم امنن على خادم الحرمين بشفاء من عندك، شفاء لا يغادر سقماً، اللهم اجعل ما أصابه رفعة له وتطهيراً، اللهم واحفظ لنا ولي العهد الأمين وسمو النائب الثاني، اللهم من أراد بلادنا بشر فكده في نفسه واجعل تدبيره تدميراً له وهلاكاً، إنك سميع مجيب الدعوات.
ثرمداء -SDOKHAIL@GMAIL.COM