لاشك أن الغيبة من أعظم الذنوب وأسوأ الأفعال، وهي من أشد خسائر الحسنات، ويستوجب فعلها مقت الناس لمقترفها في الدنيا، وسخط الله تعالى عليه في الآخرة! وبرغم علمنا بسوئها إلا أننا نمارسها ولا نفطن لذلك إلا بعد أن ننتهي، ثم ما نلبث أن نتبعها بالاستغفار!
والأمر يتطلب جهاد النفس والتراجع حال الولوغ في أحوال الناس أو الانتقاص منهم والسخرية بهم أو حتى نقل الأخبار السيئة عنهم أو التي تتطرق لشخوصهم دون أفكارهم المعلنة للملأ، لأن أفكارهم المعلنة محل نقاش وأخذ وعطاء دون الانصراف للتحليل الشخصي، والاكتفاء بالتحليل الفكري والعلمي.
حينما كنت أسمع عبارة: (لحوم العلماء مسمومة) كنت أتوقع أنها حديث صحيح بسند لا ينقطع! لدرجة أن أخذت لدي طابعاً مقدساً ولكنني علمت أنها من أقوال الحافظ ابن عساكر. حيث يقول: (لحوم العلماء - رحمة الله عليهم - مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة).
وقد شاعت هذه العبارة زمناً طويلاً حتى أصابتنا بالحيرة والدوار! فهل هي على الإطلاق؟! وهل لحوم غيرهم سليمة وشهية؟! ونحن المسلمين نعلم أن الغيبة عموماً محرمة. فلِم خص ابن عساكر العلماء بالذات؟ وهل مصطلح (عالم وجمعها علماء) تختص بعلوم الشريعة فقط ؟! أفلا يمكن إطلاق مسمى عالم وعلماء على مختصي الطب والفلك والاجتماع وغيرها من العلوم؟ أم أن إطلاقها قد جاء مجاملة لهم وداعبت قلوب المشايخ فاستمرؤوا تداولها؟! في زمن ابتلينا فيه بأتَباع ومريدي مشايخ رفعوهم حتى أوصلوهم مصاف الأنبياء، فلا تجد من يرضى أو حتى يستمع لاعتراضك العادل أو انتقادك الهادف على اجتهاد أطلقه شيخ يحتمل عدة أوجه مما يشعرنا بأنهم بالفعل من أهل العصمة والحصانة! بينما الواقع الجديد كشف حقيقة بعض الرموز الدينية وهو ما يستدعي التفكير برفع الحصانة عن العلماء عموماً ووضعهم في مكانتهم اللائقة لعلمهم دون شخوصهم. ولا يعني ذلك الافتراء عليهم ولا على بقية عباد الله! لاسيما أن المقولة باتت لا تُطبَّق على جميع علماء الشريعة ممن لهم أسلوبٌ خاص بهم ومنهجٌ مختلف عن غيرهم. فلا تتطابق هذه المقولة مع ما تعرّض له بعض المشايخ المتنورين من قصف وإقصاء وتشويه! ولعلها دعوة لإقرار مبدأ المساواة بين لحوم المسلمين جميعاً وتوحيد نوعها!
والحق أن التعصب المذموم لجماعة، أو لشيخ بعينه، يؤدي إلى تقديس الأشخاص دون النظر لأفكارهم الاجتهادية وإمكانية مناقشتها. وقد شدد القرآن الكريم على ذلك حتى مع أحب الخلق لديه وسيد المرسلين بقوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران).
وعلى جانب آخر، لم يفضِّل النبي عليه الصلاة والسلام بالقدوة أي صحابي على الآخر. بل قال: (أصحابي كالنجوم، بأيِّهم اقتديتم، اهتديتم). عليه أفضل الصلاة وأجل التسليم. بينما لدينا تنشر مقالات وتحقيقات في الصحف والمواقع الإلكترونية مثل: (لمحبي الشيخ فلان، سيلقي محاضرة في المسجد الفلاني) أو (حبيبي الشيخ فلان يتعرض لوعكة صحية، دعواتكم له في جوف الليل) هكذا! وبالمقابل يدخل شيخ آخر المستشفى ولا يدعو له بالشفاء ولو لوحده دون استنفار الناس!
أما من يتجرأ ويعقِّب على رأي أحد المشايخ أو يستفسر أو يناقش فكرته واجتهاده؛ فلا تَعجب حين يطلب أحد المأزومين بتوحيد الدعاء عليه بالهلاك ولأسرته بالأمراض، وقد يصل الدعاء لجيرانه الذين رضوا أن يسكن بجوارهم هذا الليبرالي العلماني، ومن ثم يبدؤون بتقطيع لحمه الشهي، وقد لا يلجؤون للطبخ أو الشواء أو القلي، لأنه قد تم مضغه من غيرهم حتى الليونة، فليحترسوا كيلا يدخل لحمه بين أسنانهم فيؤذيهم ويضطروا للتخليل!!