كنت في زيارة لوالدي بين المغرب والعشاء، وحين دخل وقت صلاة العشاء رافقته للمسجد المجاور لمنزله، وبعد الصلاة قام شاب فتوجه إلى مكبر الصوت لإلقاء كلمة وعظ أو تذكير أو توجيه، فابتدأ كلامه بوصف نفسه بأنه ليس أكثر الحاضرين علماً، ولا أكثرهم فهماً، ولا أغزرهم معرفة، ثم وصف نفسه بالتقصير، سائلاً الله أن يعفو عن ذنوبه، ثم شكر المصلين لأنهم أتاحوا له -برغم تقصيره وعدم تميزه- أن يقف بين أيديهم واعظاً، ثم انطلق في كلمته التوجيهية بعد أن قدم صورة سلبية مشوهة عن نفسه!!
قارئي الكريم.. يخطئ بعض الناس في تفسير مصطلح التواضع فيسيؤون تطبيقه، كهذا الشاب الذي لم يسأله أحد عن مستوى علمه، ولم يطلب منه أحد الاعتراف بحقيقته ومستوى تدينه، ولكن تواضعه المذموم حمله على تشويه نفسه أمام السامعين ليطلب منهم بعد ذلك الاستماع إليه وتطبيق توجيهاته والتأثر بنصائحه!! وكيف يمكن أن يتقبل الناس من شخص هذه صورته! وهل يعقل أن ينصتوا له بقناعة؟ أو يأخذوا توجيهه وإرشاده باحترام وهو مقصر ومذنب وقليل العلم كما ذكر؟!!
سأضرب مثالاً ربما يقرب لك ما أعني.. لو أنك احتجت يوماً لعامل يصلح شيئاً متعطلاً في منزلك، سواء كان متعلقاً بالكهرباء أوالسباكة أو جهاز كهربائي أو كمبيوتر، ثم وجدت من يصلح لك ذلك، وقبل التوجه به لمنزلك، قال لك: أشكر حسن ظنك بي، وأرجو أن أستطيع أن أقدم لك شيئاً ينفع، فأنا لست أكثر الناس علماً ولا مهارة، ولكن أرجو أن أستطيع مساعدتك، علماً بأني مقصر، والكثير ممن يعملون في نفس عملي هم أكثر مني خبرة ومهارة!!
أسألك قارئي الكريم.. هل عرض هذا الشخص نفسه لك بطريقة تقنعك به وتدفعك للاتفاق معه؟ بالطبع لا.. فما دام قليل العلم والمهارة، فغيره أحسن منه بالتأكيد، وحتى لو أخذته وأصلح لك ما تريد فإنك ستحتقر عمله، وتقلل من شأنه، وتتهمه بالتقصير ولو كان عمله جيداً.
إن العاقل لا يعرض نفسه أمام الناس إلا في أحسن صورة وأكثرها إقناعاً لهم بقدراته ومهاراته، ولا يجب عليه أن يتواضع تواضعاً مذموماً فيحقر شأنه، ويقلل من مستواه دون أن يطلب أحد منه ذلك. لذا كن واثقاً في نفسك، واثقاً بقدراتك، مقتنعاً بتميزك، حتى تكسب احترام الناس وقبولهم.. وتذكر الشاعر المتنبي الذي كان يبرز نفسه بهذه الصورة دائماً، كن مثله وردد معه بقناعة قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أو قوله مادحاً قدرته الفذة على قول الشعر، متحدياً الآخرين أن يصلوا إلى مستواه في المهارة الشعرية:
لا تجسر الفصحاء تنشد هاهنا
بيتاً ولكني الهزبر الباسل
ما نال أهل الجاهلية كلهم
شعري ولا سمعت بسحري بابل