منذ سنوات عمري الأولى، كنت في كل جمعة أترقب مع مجموعة من زملاء الطفولة تلك الساعة المنتظرة التي يحضر فيها خالد الفيصل - بحضوره وسمته المهيب - صلاة الجمعة في جامع الملك فيصل بأبها... ومنذ تلك السنوات لا زلت أذكر تسابقنا الطفولي البريء لنرى الأمير عن كثب، وهو يدخل المسجد ويؤدي تحيته ثم يستاك، قارئا أو مسبحا، منتظرا ظهور خطيب الجمعة، ولا عجب فقد ظلت تلك الشخصية حاضرة يحرص على مشاهدتها، والاستماع إليها، والإعجاب بها، الكثير من المثقفين والمثقفات، ولم أكن بحاجة إلى أن أعرف بعد كل ذلك بسنوات، أن مشاعر «البحتري» وهو يرى «المتوكل» في ذات الموقف، ترجمة شعرية باذخة لموقفنا الطفولي آنذاك:
وافتتن فيك الناظرون فإصبع يومي إليك بها، وعين تنظر وتتابعت بعد ذلك السنون، وخالد الفيصل الحاضر بوعيه، وقراره وجهده المتواصل في نهضة عسير، والحاضر بثقافته وفكره في الداخل والخارج، مما يعرفه المنصفون، ويتعامى عنه المرجفون، الذين سيغيظهم بالطبع أن خالد الفيصل، كان وباستمرار الحاضر في احتفالات الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في عسير، والداعم الوحيد لجائزة أبها التي كانت تقيم المسابقات المتنوعة لأبناء عسير وبناتها، وكان حفظ «كتاب الله» وسنة رسوله، الركن الركين لتلك الجائزة، لكل مراحل التعليم، وستشهد الأرقام والأشهاد، كم حفز خالد الفيصل، وكرم من حفاظ كتاب الله وحافظاته، وسنة رسوله عليه السلام، في احتفالات دعا إليها من قيادات الوطن، ما أبهج، وأثلج صدور المتميزين والمتميزات في شتى المجالات.
وتدور الأيام ويكون لي أن أقترب من الرجل، عبر عملي في أمانة أسبوعيات «المجلس» والمجلس هو مجلس الأمير خالد الفيصل في عسير، الذي كان يعقد من بعد صلاة العشاء، مخصصا «السبت» للعلماء، والقضاة، وطلاب العلم الشرعي، و»الأحد» للأكاديميين والأدباء والمثقفين، والثلاثاء لمديري الدوائر الحكومية، فيما كان الاثنين لرجال القبائل.
كنت في «الأمانة» إلى جوار العزيزين، أنور خليل، وأحمد التيهاني، وبإشراف الراحل الرائع: «علي آل عمرعسيري» رحمه الله، وهو الشخصية التقية النقية، التي يعرف تقواها وخشوعها كل من تعامل معه...
كانت علاقة من الحب والثقة والاعتزاز تربط بين الأمير، وآل عمر، وغير مستغرب أن يختار خالد الفيصل الإداري المحنك، رجلا مثل علي آل عمر رحمه الله.
كنا في المجلس في ناد ثقافي متنوع المناشط، مستمر الحوار، والنقاش، وأشهد أن خالد الفيصل كان ميقاتا دقيقا وعجيبا لمجلسه، على نحو يجعلك تتعجب أشد العجب من هذه الدقة في احترام الوقت، وهي الدقة التي يضيعها كثير ممن يدعيها، ممن ليس لهم ولا عليهم من أعمال وارتباطات خالد الفيصل، ولكنه الوعي في التغيير من خلال «الذات» التي تغدو هنا علامة مضيئة في طريق التطوير، والانطلاق، والإبداع...
يبدأ المجلس بصلاة العشاء في المسجد، وما إن تنتهي حتى يغادر المصلون المسجد، فيما كان خالد الفيصل يبقى؛ لأداء السنة، ويشهد الله كم من المرات كنت أتعمد التأخر لأراه، وهو ينهي صلاته، وحيدا في مصلاه، خاتما لها برفع يديه داعيا متضرعا، وكم كنت أذهب تلقائيا للمقارنة بين جلسته تلك، وصورة أبيه الشهيد، التي يبدو فيها رافعا يديه داعيا متبتلا...
هل أقول الآن: إني أستحضر هذا وغيره، وخطاب الاتهام والظلم يحاول أن يصل إلى هذه القامة، بالافتراء والكذب، نعم إنه الكذب ! أليس مخجلا أن يكون الخطاب المتلبس زورا بالوعظ، كاذبا، بلى والله !
كنت في حديث مع الدكتور على عبدالله الموسى، الأمين العام المساعد لمؤسسة الفكر العربي سابقا، حول خالد الفيصل، وكان مما قال: سافرت مع خالد الفيصل، في بدايات المؤسسة، في طائرة خاصة، لا تكاد تستقر في بلد حتى تغادره لآخر؛ من أجل المؤسسة، وأشهد بالله أنه كان ميقاتا دقيقا لصلاتنا، فلا يكاد وقت الصلاة يحل؛ حتى ينبهني لنصلي.
عوداً على مجلسه الثقافي الإداري المتنوع، الذي كان يبدأ جلسته في سبته بدرس في «النحو» للدكتور محمد الحازمي، وهو أمر يتفق ورؤية خالد الفيصل نحو لغة القرآن الكريم التي تبنى المشروعات الخاصة بدعمها، وتعويد الناشئة عليها، مما تشهد به الخطابات، والندوات، والحلقات العلمية، التي عقدت في عسير، ولم يكن خطابه الشهير الأخير في افتتاح ملتقى نادي مكة الثقافي إلا ترجمة الفعل الصادق لهذا الحرص، الذي يتجاوز الآهات والآلام، وندب حال اللغة، إلى الفعل.
في المجلس تقدم الأوراق العلمية المتنوعة، في الشريعة عقيدة وفقها، والأدب، والإدارة والطب، والتقنية... الخ، ويدير الأمير الحوار، في جو علمي ثقافي محض، وكم كان يضيف، ويعلق، مستدركا، ومصححا، ومضيفا، ولله كم كنت أشعر بكثير من الاعتزاز، وزملاؤنا في الجامعة من مختلف البلدان العربية يخرجون من مجلسه، وهم في حالة من الإكبار لهذه الشخصية المغروسة في الفكر والأدب والسياسة والإدارة.
شخصية خالد الفيصل القيادية ثقافية بالدرجة الأولى، فهو مثقف حاد الذكاء، شديد الملاحظة، ذو نظرة واعية0 يحدثني أستاذنا محمد الحميد، أن الأمير كان يحذر منذ سنوات بعيدة، من مآلات، وعواقب الخطابات المتشددة، التي كانت ضاجة آنذاك، ويحذر مما ستجره من أهوال وجرائم ودماء، وقد كان ما حذر منه، قبل أن يتراجع المتراجعون !
إنها رؤية خالد الفيصل الثقافية التي تكشف، وتستشرف، وتحلل، وتحذر، وكأن النسق الذي صحا في غفلة منا! يريد أن ينتقم من هذا الوعي عبر التدليس، والكذب!
في مجلسه تحضر التعددية، والتنوع، ويحضر الوعي، ويكون الخطاب أمامه مطالبا بالحجة، والدليل، وكم هي المواقف الجميلة النبيلة الرائعة التي يعرفها من عمل إلى جوار خالد الفيصل، والتي كنت أستمع إلى بعضها مؤخرا، في جلسة ممتعة مع العقلية المتميزة الدكتور سعد مارق. أستذكر ذلك، وأستحضر معه موقف المضمخ بالتلقائية والصفاء والذكاء، «إبراهيم طالع»، الذي داخل في إحدى ليالي المجلس مداخلة عنيفة طويلة، استمع لها الأمير حتى انتهت! ثم بدأ في الإجابة عنها، بهدوء ووعي وأدب، بيد أن الزميل العزيز كان يقاطع الأمير مداخلا، والأمير يطلب منه أن يسمعه، كما استمع إليه دون مقاطعة! وكعادته كان خالد الفيصل واقعيا، مذهلا في الشرح، والإضافة، والبيان، وهو الأمر الذي رأيته في مجلسه في «مكة المكرمة» في بداية توليه إمارتها، حين كان أحد المسئولين يداخل حول أنظمة المجالس البلدية، ومجالس المناطق، وكم من العجب رأيت على وجوه الحضور والأمير يعلق على التعليق، مبينا خطأ المسؤول في الخلط بين الأنظمة، مستحضرا المادة التي أشار لها، ومبينا له في أي نظام هي، متحدثا عن هذه الأنظمة حديث العارف المتابع المدقق.
هذا الوعي، وتلك الرؤية، وذاك الأدب، هو الذي ميّز رد «خالد الفيصل» على الخطاب الهجومي المتلبس بالوعظ، الذي وجه إليه، حين رأى محقا أن لديه من الأعمال المهمة التي يحتاجها حجاج بيت الله الحرام ما يشغله عن كل ذلك، ويا لروعة، ودلالة، وأهمية ما قال بعد ذلك حين قال: «أسأل الله الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور أن يغفر لي، ولهؤلاء الذين أساؤوا لي».
نعي أيها الرجل النبيل، الدرس العملي الإسلامي المباشر، الذي منحته لهم في أشد المواقف، وأولاها، وأحقها بالانتصار للذات المظلومة، وسنعي لو أغلظت لهم في القول .
لكنك رأيت أن ما عند الله أبقى، مع قدرتك على أن ترد بالحقائق الثابتة ! لا حرمك الله أجر إيثار الأبقى، على الأدنى. سنعي كل ذلك، وسنعي أيها الحصيف دلالة استحضارك في هذا الميدان ل: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
لكن السؤال سيظل مؤلما ومحزنا عن أمانة، وصدق هذا الخطاب الذي تلبس رداء الوعظ ! وكأنه يريد منا أن نتنكر لتأريخ هذا الرجل، الذي كان وما زال وسيظل بحول الله، داعما ومؤيدا، بالفعل لا بالقول فحسب لكتاب الله وحفاظه.
فلم يتجاهل هذا الخطاب الصدق، ويتجه نحو الادعاء، والمزايدة ؟ لم يريد هذا الخطاب أن يعيدنا إلى منزلقه الأول، الذي دفعنا بسببه غاليا من الأرواح والممتلكات؟
هل نسي هذا الخطاب، أننا شهداء الله في أرضه؟ وتجاهل أننا نعلم أن خالد الفيصل، تأريخ وطني مشرق، يؤكد في كل وقت أنه جندي من جنود قيادة هذا الوطن، وأن كل نجاح فهو لقيادته, هل قلت: إن خالد الفيصل طلب من الشعراء بعد أن مدحه أحدهم في مجلسه في مكة المكرمة، أن يمدحوا قيادة بلادنا الراشدة، وأعمامه الأوفياء، فهم الأولى بالمديح...
عن أية غيرة يتحدث خطاب الوهم، وعن أي عدو يكتبون، وممن يحذرون؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا! لنختلف حول القرار الإداري، ولنتحاور حوله، ولكن لتعفّ ألسنتنا عن الكذب، والافتراء، والتدليس، من أجل توهم بطولة، أو إعجاب جاهل مريد، أو حاقد مريض.
أية جهد يحتاجه «مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني»، ليخضع هؤلاء إلى دورات عملية مكثفة، يذكرهم فيها، بالخلق الإسلامي في الحوار والنقاش، والنصح والتوجيه، وحقوق المسلمين في أعراضهم؛ حتى يُعالجوا من غلوهم، وأحكامهم التي يرمون بها أعراض المسلمين؛ لشبهة أو شهوة! أية دورات يحتاجون؛ ليواكبوا مرحلة الملك الصالح العادل «عبدالله بن عبدالعزيز» وتحذيره من التصنيف، وحرصه على الحوار، والنقاش الموضوعي الهادف.
انشغل خالد الفيصل بحجاج بيت الله الحرام، ملبيا، ومنفذا لتوجيهات قيادته المتابعة، وانشغل معه أبناء الوطن وبناته، في أشرف مهمة وأنبلها، فيما انشغل هذا الخطاب بالتفسيق، والتخوين، وادعاء الأمانة والنصح، متوهما أنه سيمرر على الوطن آفاته، واحتقاناته، وكم سيكون مخجلا لهم ذلك اليوم الذي يقفون فيه أمام ميزان الحق، وكم هو مخزٍ لهم أنهم يتحدثون عن رجل يعرفه كثير من المنصفين الصادقين، ويعرفه قبل ذلك وبعده علام الغيوب، وما تخفي الصدور...