في عام 1984م اجتمع رؤساء وزارات دول السوق الأوروبية في (دبلن) ولم يناقشوا في صدر مقرراتهم القضايا التي قد نتوقعها: السلاح، الغذاء، التلوث، بل ناقشوا قضايا التربية والتعليم!! وكان هذا هو المستوى.. وتلك هي القضية.
أوروبا التي تعلمون كيف ننظر إليها.. وكيف نرجو أن نلحق بمستواها.. أوروبا هذه كانت تطرح على نفسها ممثلة في رؤساء وزرائها هذا التساؤل، هل بدأت أوروبا عصر الانحطاط؟
وهكذا حين يتحالف الصدق والشجاعة في أمة تنبت الأسئلة التي لا تعرف المواراة والتي تبتغي إصلاح الأخطاء بصراحة فذة، ومن المؤكد أن صدق الأمة مع نفسها أمضى من السيف أثراً، فبه تبني الأمة من الأمم بناء يكون حصناً يمتنع على أعدائها أو منافسيها. ذلك أن الصدق إذا تدفق في الفصل الدراسي وفي المختبر والجامعة وفي المصانع والحقول فإنه ينتج قوة عظمى.. أو على الأقل قوة صغرى مهابة!!
انعقد المؤتمر في دبلن 1984م ولم يضيع الزعماء أوقاتاً ثمينة في مناقشات تقليدية حول بعض القضايا المحلية.. وإنما قفزوا للأوضاع فيما وراء البحار هناك حيث (الولايات المتحدة) و(اليابان) وكان مدخلهم الطبيعي لأوضاع قارتهم الأوروبية هو المقارنة والمقارنة اللاذاعة مع أوضاع القوتين العظميين.
رئيسة وزراء بريطانيا تتساءل: ما علتنا؟
ورئيس وزراء هولندا يتشاكى قائلا: لقد أصبحنا مجردين من السلاح.
أما المقصود النهائي فكان ما وضحه أحد زعماء أوروبا فقال: لقد جردتنا أمريكا واليابان معا من التقنية.
ثم تبعه آخر يؤكد ينبغي أن نبحث عن العلة الدقيقة في مجتمعاتنا بل هناك في أعمال أنظمتنا التعليمية.
ثم أضاف آخر: يبدو أننا لم نعد قادرين على مسايرة التقدم.
من هذا المنطلق النقدي الصارم الصادق.. أخذ القادة الأوروبيون يفكرون باحتمال دخول أوروبا مرحلة الانحطاط.. (فتأمل).
وإن هذه الاحتمال الذي يسعون لتوقيه وإن كان على المدى البعيد إلا أن مجابهته تبدأ خطواتها التنفيذية بانتهاء آخر جلسة فهل نفعل؟
فالشعوب لا تسكن توصيات الندوات والمؤتمرات والإسكان الحقيقي لا يكون في الرسوم الهندسية للعمائر والمدن والدول، وتلك إحدى ثمرات التوقعات المستقبلية المبنية على الدراسة انطلاقاً من مؤشرات الحاضر.
وكان جوهر تصورهم والشروط المانعة من السقوط والتدهور والانحطاط هو: تدارك الأنظمة التعليمية.
وحيثما توجهت في القارة الأوروبية تجد الإعلان عن هذا المعنى مبثوثاً هنا أو هناك لمن يتابع ويلاحظ ويحلل.
في قاعات الدرس، في قاعات المحاضرات، في أفكار الساسة والمفكرين والتساؤل الأساسي، وبالمناسبة فإنه جديد ببقائه في ذاكرتكم هو: هل لدى الأنظمة التربوية والتعليمية الكفاءة التي تمكننا من انتشال أوروبا من الركود وخمول التفكير اللذين باتا يهددان بوضوح القدرة على التجديد في المجال التقني للأخذ بيد صناعات يرونها أصبحت عتيقة الطراز، الأمر الذي أدى بالتالي لتخلفهم حين المنافسة مع أمريكا واليابان؟
إذن، لا بد من غرس روح المنافسة التي تتطلب مقارنات جادة لا تجامل ولا تطفف ولا تستوفي من جانب وتسخر من جانب آخر، لا بد من روح تسري تسترد الثقة والأمل وتقدم المعلم القدوة.. ولا بد من رأس مال ننأى به عن سعار الاستهلاك ليتدفق في عروق الإنتاج.. ولا بد أن تهب هذه الرياح العبقة العفية في بيوتنا فتجعل كل بيت مثل الخلية، ينتج ويتقن.. ومتى نعرف متى نخوض ونلعب.. ومتى نجد وندرس وننتج.