نشرت في هذه الجريدة مقالاً حول عمل الكاشيرات ومنعه مؤخراً وكان بعنوان: «عمل الكاشيرات بين مخالطة الرجال والخلوة الشرعية» وقد هالني بحق عدد من قرأ المقال وعدد الردود التي وردتني عليه على الأقل من المحيطين بي في كل مكان سواءً باللقاء المباشر أو بالهاتف أو عبر الفيس بوك.
أكثر ما شدني حقيقةً هو عدد المؤيدين والمدافعين عن عمل المرأة بهذه المهنة أو بغيرها وتشجيعهم بضرورة استمراري وبقية الزملاء الكتاب في نشر المزيد من هذه المقالات. وبرغم تلك المناشدات والتشجيع على المواصلة كان ثمة من يعارض عمل المرأة بالمطلق لا في مجال الأسواق هذه ولا في غيرها منادين بضرورة أن يكون هناك أسواق نسائية بالكامل بدلاً من وجود الفتاة في بيئة مختلطة وما قد يُعرض وجودها ذلك من تحرشات ومضايقات أو انحرافات منها وغيره، وأكثر ما أثارني هو ذهاب البعض مباشرةً ربما من خلال قراءة عنوان المقال فقط دون محتواه إلى اتهامي بالتدخل في شئون الفتوى التي أمر خادم الحرمين الشريفين مؤخراً بحصرها في نطاقها وعدم السماح بتقليل شأنها أو النيل منها.
وقبل خوضي في الاعتراضات أو التأييدات الجديرة بالمناقشة أقول لمن زعم تدخلي بالفتوى أو التقليل منها إنني ذكرت حرفياً التالي: لست ضد الفتوى تلك لكنني أتعجب دوماً من محاولات الكثير التركيز على جزء دون الكل أو لنقل على حالة واحدة في ظل وجود حالات كثيرة مشابهة. اليوم نشهد سجالاً واسع النطاق حول قيادة المرأة للسيارات، وإذا ما ذهبت لأحد طلبة العلم لسؤاله عن قيادة المرأة للسيارة فسيجيب بأنه لا يوجد ما يمنع من ذلك شرعاً لكن قد يكون من مصلحة الأمة عدم جوازه سداً للذرائع التي ربما أفضت لحرام، بينما لم يذكر السائل أن نساء البادية يقدن السيارات ويذهبن بها إلى محطات الوقود وإلى الأسواق القريبة، لذلك تجد دوماً أن الفتوى تقتصر على حالة واحدة فقط ويبدأ الناس بالتساؤل عن سبب منع نساء المدينة وصدور فتاوى بخصوص قيادتهن للسيارات بينما نساء البادية لم يمنعهن أحد ولم يصدر بحقهن فتوى.
اليوم يتصدى الجميع لعمل المرأة كاشيرة أو محاسبة في الأسواق التجارية منعاً للاختلاط أو لخلوة غير شرعية أو لأسباب أخرى لم تذكر بينما الفتاة تعمل في مكان عام وأمام أعين الجميع وبدون وجود خلوات سواءً شرعية أو غير شرعية ولا يخالطها في مكانها المخصص للوقوف والعمل رجال، فمن أين أتت الخلوة غير الشرعية أو الاختلاط؟ فضلاً عن حرص القائمين على تلك الأسواق بضرورة تقيد الفتاة بالزي الرسمي الذي يسترها من رأسها حتى أخمص قدميها.
الغريب في الأمر أن المتسوق قد يخرج من السوق فيجد فتاة وقد افترشت الرصيف ببضاعتها وتجادل الزبائن من الرجال والنساء على حد سواء وربما كانت بمفردها ما يتيح اقتراب أي رجل لها ومحادثتها عن قرب، أقول الغريب أن أحداً لم يُصدر فتوى بهؤلاء لأنه ببساطه لم يتم سؤال الشيخ أو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عنها واكتفى من أراد السؤال بتوجيه إنتباه ذلك الشيخ أو تلك اللجنة للبائعات داخل الأسواق التجارية فقط دون الأخريات اللاتي يفترشن الأرصفة أو يعرضن بضاعتهن بين السيارات، ولأن تلك البائعات اللاتي يفترشن الأماكن العامة لا يعملن تحت مظلة مؤسسة أو جهاز ما يصعب منعهن أو ملاحقتهن إلا من خلال دوريات البلدية التي تجوب شوارع المدن الرئيسة بحثاً عن مخالفات تجارية.
الموضوع له بعدان، البعد الأول هو محاولة البعض إصدار فتوى باتجاه ما يرغبون دون النظر لحيثيات الموضوع بشكل كامل فيسوق الأمر ويشرحه للجنة بطريقة توحي بأن الأمر يجب أن يُمنع كأن يُطرح السؤال بذكر سلبياته فقط دون إيجابياته (ما هو رأي فضيلتكم في عمل المرأة كبائعة أو ما يُسمى كاشيرة في الأسواق التجارية التي يدخلها الرجال وقيامها بأخذ الأجر من الرجل والتحدث معه عن قرب فضلاً عن تركها منزلها والخروج للعمل؟) وهذا أمر في غاية الخطورة ولا يملك معه مُصدر الفتوى سوى منعها، لأن السائل قد قدم له أسباب جاهزة للمنع ولم يذكر له إيجابيات العمل ولا ظروفه ولا طبيعته، ثم إنه لم يذكر له أن هناك المئات من النساء يعملن في ذات المكان لكن خارج السوق بجانب الباب يبعن بشكل منفرد من سنوات لم يتم إصدار فتوى بحقهن، من أولئك النساء من قد تركت منزلها للحاجة المالية وعرضت نفسها لأنواع المهانة وتحملت مشقة المكوث طويلاً سواءً تحت حرقة الشمس نهاراً أو البرد ليلاً، فضلاً عن تركها أسرتها وما قد يترتب على ذلك من إهمال في تربية الأبناء والبنات على حد سواء، والبعد الثاني يكمن في إعالة هؤلاء الفتيات لأسرهن وحاجتهن للعمل، وأن خروجهن للعمل حقيقةً درءاً لمفاسد كثيرة نتيجة حاجتهن للمال، وأن مكوثهن في بيوتهن مع الحاجة المالية ربما كان فتحاً للذرائع وليس سداً، الأمر الذي قد يُفضي لمفاسد عدة كما أسلفت.
إجابة أي سؤال احتمالي تكون بموجب صياغته ما لم تكن المعطيات واضحة ولا تحتاج لاجتهاد، وإصدار الفتوى بموجب السؤال أيضاً تكون بناءً على صياغته ما لم يكن الأمر واضحاً ولا يحتاج لاجتهاد لذلك كنت أتمنى أن يتم انتداب من يُوثق به لمشاهدة الأمر على الواقع ومراقبته لمدة معينة حتى تتضح الصورة بشكل كامل لمصُدر الفتوى، لا أن تُبنى الفتوى فقط على السؤال والجواب والظن، فأحياناً إباحة أمر يُظن أنه فتحاً للذرائع يكون درءاً لمفاسد أعظم فإذا كانت المصلحة أعظم من المفسدة فتحتمل المفسدة لتحصل المصلحة مثل تحمل مشاق الجهاد وما فيه من سفك الدماء وذهاب الأموال لمصلحة حفظ الدين ومثل تحمل مفسدة بقاء المنافق ابن أبي لتحصيل مصلحة نشر الإسلام. انتهى.
فأين تدخلي بالفتوى وأين تقليلي منها ومن القائمين عليها في البلاد، جُل ما انتقدته هو طريقة طرح السؤال على مصدر الفتوى أو على اللجنة واقترحت طريقة أخرى لذلك، لأن الإجابة تُبنى عادةً على السؤال والحكم على التصور ما لم يكن هناك ثمة دلائل قوية معلومة ومادية لا يمكن المراوغة بها.
أعود لصلب الموضوع فأقول إن من رفض خروج المرأة للعمل واستبدله بمقترح جعل الأسواق مغلقة بالكامل، اقتراحه ممتاز نتمنى تحقيقه لأن حصر السوق على النساء يعني توفير عدد أكبر من فرص العمل لمن تحتاج وفرصة عظيمة للنساء للتسوق براحة دون الضرورة للجوء للبس العباءة مثلاً خشية أن ينكشف منها ما يجب ستره، لكن علينا أيضاً أن ننوه بأن المواطن السعودي ليس ذئباً هائجاً ينتظر أن يرى فريسته لينقض عليها وينال منها، شبابنا ليسوا بهذا السوء الذي يجعلنا وبشكل غير مباشر ننصب أنفسنا حماة للفضيلة ونرفض كل ما من شأنه أن يُخرج الفتاة في المنزل، والفتاة السعودية ليست منحلة وسافرة تنتظر فقط خروجها من المنزل أو الإذن لها بالخروج لتمارس فحشها وسفورها وانحلالها، فالاختلاط يختلف عن الاختلاء وعمل الفتاة كاشيرة في سوق مركزي كبير ضمن ضوابط معينة لا يجعلها تختلي بالرجل بأي حال من الأحوال بل المرأة أو الفتاة التي تفترش الطريق بين سيارات المتسوقين خوفاً من رجال البلدية هي من يمكن أن يختلي بها الرجل بعيداً عن مرأى ومسمع الناس.
نحن لا نقود مشروعاً تغريبياً ولا نعمل على جعل الفتاة المسلمة سلعة ولا نحرضها على التخلي عن دينها، لكننا نحاول أن نجد ما يمنع فسادها من خلال إيجاد حلول لبطالتها أو عطالتها التي ربما جنبتها الكثير من المعاناة التي قد تجعل منها - إن استمرت - سلعة حقيقية لإيجاد المال الذي يعينها وأسرتها - إن لم يكن لها عائل - على مصاريف العيش والحياة.