شكَّل قطاع الاتصالات في الاقتصاد السعودي خلال العقد الماضي واحداً من أكثر وأسرع القطاعات نمواً وربحية، ويُعزى في ذلك إلى حالة الجمود وانخفاض كفاءته وتطوره التي طغت عليه فيما قبل ذلك، وما إن تمَّ فك حالة الاحتكار التي عانى منها لفترة طويلة، وبدأتْ إشعاعات المنافسة على أعلى مستوياتها في شرايين القطاع، إلا شهدنا نمواً ملفتاً على كافّة المستويات في أروقته، مقترناً بارتفاع الكفاءة وجودة الخدمة واستفادة المستهلكين من انخفاض تكاليف الاستخدام. تمثّلت أبرز التحولات العميقة خلال العقد الماضي في الارتفاع المستمر عاماً بعد عام في إجمالي أعداد المشتركين فيه إلى أن أصبحوا أكثر من 47 مليون مشترك في نهايته، ساهم هذا الإقبال على شركات القطاع - التي بدورها تسابقت في تنويع خدماتها وتميزها - في الدفع بإيراداته للارتفاع من نحو 20 مليار ريال في نهاية 2001م، إلى أن وصلتْ إلى نحو 67 مليار ريال بنهاية العام الماضي، ووفقاً لبعض التقديرات الحديثة يُتوقع أن تتجاوز بنهاية عام 2010م نحو 73 مليار ريال، ما يعني أن القطاع قد تمكّن من تحقيق زيادات متتالية في إيراداته طوال فترات العقد الماضي بمعدل نمو سنوي مركب بلغ 13 في المئة.
كانتْ لتلك التطورات السابقة تفاصيل ملفتة على مستوى انخفاض تكلفة استفادة المشتركين من خدمات القطاع، واندفاع الشركات المتنافسة فيه لتقديم وتنويع الخدمات المتقدمة بما يستجيب لتطلعات واحتياجات المشتركين، إذ أظهرتْ إحصاءات القطاع معدلات ارتفاع قياسية في مجال انتشار الهاتف المحمول؛ قفزت به في مطلع العقد من 12 في المئة إلى أن وصلت في الوقت الراهن لأكثر من 172 في المئة. في المقابل شهدنا انخفاضاً في متوسط العائد من كل مستخدم للهاتف المحمول من مستوى 216 ريالا/للمستخدم شهرياً خلال عام 2002م، إلى أن استقرّت في الوقت الراهن عند مستوى 81 ريالا/للمستخدم شهرياً، ويُتوقع أن تستمر تلك الانخفاضات مستقبلاً ولكن ليس بنفس النسبة من الانخفاض، مقترنة باستمرار شركات الاتصالات في تنويع وتطوير خدماتها لمشتركيها. حيث تُشير أحدث التقديرات إلى احتمال انخفاض متوسط عائد مستخدم الهاتف النقال في منظور الخمسة أعوام القادمة إلى مستويات أدنى من 70 ريالا/للمستخدم شهرياً، ولكن في المقابل ومع زيادة توجّه شركات الاتصالات نحو تنويع مصادر دخلها، وأنواع خدماتها المقدمة، كزيادة التركيز على خدمات النطاق العريض (التي تزيد من إمكانية وصول المشتركين للإنترنت بأقل تكلفة، وأعلى كفاءة)، من المتوقع أن يتمكن القطاع عبر شركاته من زيادته إيراداته بصورة جيدة، يُقدّر أن تنمو خلال الخمس سنوات القادمة بمعدل سنوي مركب مقارب لنحو 4.7 في المئة، ما يعني أنها قد تتجاوز سقف 88 مليار ريال بنهاية منتصف العقد القادم حسب تقديرات الأهلي كابيتال الأخيرة.
قد يكون العقد الماضي اتسم بسخائه الكبير على عموم الشركات العاملة في القطاع، غير أنه بالتأكيد مع بلوغ القطاع حالة مرتفعة من التشبع بالمشتركين، فإن المستقبل القريب القادم يحمل في طيّاته تحديات أكبر وأعقد، تتطلّب بالضرورة قيام تلك الشركات بانتهاج إستراتيجيات أكثر ذكاءً ومرونة وديناميكية، تتمتع بالقدرة على التكيف المبكر مع أية تغيرات محتملة قد تطرأ على معطيات السوق بصورة عامّة، وعلى أذواق ومتطلبات المشتركين حسب فئات العُمر، والجنس، والجنسية، ومقر الإقامة (المدن، القرى). ما يُمكن قوله في هذا السياق المتشعب جداً؛ وهو مربط الفرس بالنسبة للشركات العاملة في القطاع في مواجهة مستقبل سيكون أكثر منافسة وأضيق فرصاً، أن النقطة الرئيسة في معادلة النجاح تجاه المنافسين الآخرين ستتمثل في الاقتراب أكثر من المنافس للتطلعات والاحتياجات المتزايدة للمشترك، والمبادرة في تلبيتها بأفضل الوسائل وأكثرها فعالية وأقلّها تكلفة عليه. هذا بالإضافة إلى أهمية تعزيز قدرة الشركات في القطاع على تنويع مصادر دخلها عبر دمج منتجاتها وخدماتها في مختلف النشاطات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، وقد بدا واضحاً أهمية هذا الاتجاه عبر ما قامت به شركات الاتصالات في مجال القطاعات المرتبطة بفئة الشباب في المجتمع كالقطاع الرياضي، الذي نجحت فيه بدرجة عالية انعكست إيجابياته بصورة ملموسة على معدلات ربحيتها خلال الفترة القصيرة الماضية.
إن اندماج وتغلغل الاتصالات في أنماط حياة عالمنا المعاصر لم يعد أحد الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها متى ما شئنا، ما يعني بالضرورة مبادرة الشركات في أخذ ذلك في الحسبان حال بناء أية إستراتيجيات مستقبلية لأعمالها القادمة، وأن تعمل دون كلل على استغلال تلك التحولات لمصلحتها وبما يساهم في تعزيز مستويات الرفاهية للأفراد والمجتمع ومؤسساته، وأن تستهدف توسيع خياراته الإنسانية والبشرية، التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى رفع الكفاءة الإنتاجية للأفراد، وتساهم دون شك في تعزيز مستويات التنمية، وشموليتها واستدامتها بصورة يُفترض أن تؤدي إلى زيادة وعي وذكاء وتقدّم المجتمع بمختلف شرائحه، وهي أهدافٌ تتعدد نتائجها الإيجابية على مستقبل كل من الاقتصاد الوطني والمجتمع بصورة قد يصعب قياسها بمنطق أرقام الوقت الراهن، ولهذا فهو خيارٌ إستراتيجي وحضاري بالدرجة الأولى، أعتقد أن قطاع الاتصالات بما يضمه من شركات متطورة جداً في مقدمة ركب من هم أولى بتحمّل مسؤولياته الجسام، وهو لا شك أهل لها.
عضو جمعية الاقتصاد السعودية