نعم يا رب الأرباب لكل أجل كتاب لا راد لقضائك ولا مقدر لآجالك، لك الخلق ولك الأمر خلقت الخلق ومن ثم خلقت الموت والحياة لتبلونا أينا أحسن عملا.
لقد قلت وقولك الحق {َإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
الكل مفارق هذه الدنيا عاجلاً أو آجلاً، هذه سنة الحياة وسنة الله في خلقه..
.. عجلة تدور تبدأ من ساعة الميلاد وتقف عند ساعة الميعاد وعندها تبدأ رحلة جديدة تبدأ من المواراة في بطن الأرض حتى يأذن الله جل وعلا بالخروج منها إلى الحياة البرزخية الأخروية الدائمة دار البقاء والهناء إن شاء الله لمن شاء.
لقد صدق الشاعر حينما قال:
احترت في الأمر والمكلوم يحتارُ
وكم تعصت على المكلوم أشعارُ
حقا لقد تعصت على لساني النطق بالكلمات وعلى قلمي الكتابة بالأحرف ثلاثة أيام على وفاة شقيقتي الكبرى والتي هي بمثابة والدتي (التي فقدتها من صغري) لم أستطع خلالها كتاب حرف واحد في رثائها.
فرق كبير بين أن يموت لك ميت وأن يموت فيك ميت فالميت يموت لك فتنتقص بموته عدداً، والميت يموت فيك فتنتقص به روحاً ونفساً وقلباً، إنك إذا مات لك ميت عزاك الناس فإذا بك تقوى بالعزاء، أما إذا مات فيك ميت فمن يعزيك؟
أن بعضك يعزي فيك بعضا وأنت لا تدري أي أعضائك أقوى من بعض، حتى يعزي القوي فيك الضعيف داخلك فكل ما فيك ضعيف وعزاء الضعفاء بعضهم بعضاً دعوة إلى مزيد من الضعف والتهاوي، فلا عزاء لك من خارجك ولا من داخلك ولأنك لست وحدك في هذه الدنيا، وإنما لك رب يدبر لك أمرك فلا عزاء لك إلا من الله وحده القادر على أن يفرغ عليك صبراً من عنده سبحانه كالذي أفرغه على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حين ماتت زوجته خديجة أم المؤمنين وهي من هي ذات السبق في الدين والجهاد في رفع رايته والمواساة في زمن الشح والقلب النابض في زمن كانت فيه قلوب الكافرين أشد من قسوة الصخور، وحين مات عمه حمزة رضي الله عنه -أسد الله- وأخوه من الرضاعة وحين مات ولده إبراهيم وبكاه وقال عليه الصلاة والسلام: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
فهذه خواطر ابثُ فيها حزني على شقيقتي الكبرى قماشة بنت عبدالرحمن العنقري التي وافتها المنية ليلة الاثنين 13-1-1432هـ وقد عاجلها مرضها الأخير بعد ثميرات أكلتها وهي تفطر بعد إتمامها صيام عاشوراء هذا العام فهنيئاً لك يا أم أحمد على هذه الخاتمة الطيبة والتي قال عنها الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله قالوا: كيف يستعمله قال يوفقه لعمل صالح قبل موته).
عرفتها -رحمها الله رحمة واسعة- امرأة صالحة مصلية ذاكرة صابرة على ملمات الحياة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى عفة اللسان لا تذكر أحداً ولا تسمع منها إلا ما يرضي الله عز وجل.
طيبة النفس ترضى بالقليل قنوعة بما أتاها الله مقتصدة في مأكلها ومشربها وفي جميع شؤونها لا تسرف ولا تحب الإسراف.
عرفتها رحمها الله منذ أكثر من نصف قرن أي منذ وعيت الدنيا بأخلاقها العالية النبيلة فلم أسمع منها يوماً قط كلمة سوء أو تعاملا غليظا بل كانت تستقبلنا بالبشر والسماحة والكلمة الطيبة.
وفي آخر زيارة لها قبيل وفاتها تركت مجلسها المعتاد وهي التي تسير ببطء شديد من آلام ظهرها وجلست ملاصقة لي في المكان الذي أجلس عليه وقربت مني أشد ما يكون تحدثني بصوت منخفض وكأنها تودعني رحمها الله ولم أجد تفسيراً لذلك، لقد تحملت الكثير والكثير من المعاناة وشظف العيش وقلة ذات اليد ولا سيما في مقتبل حياتها فصبرت واحتسبت وما سمعتها متذمرة مرة واحدة.
لقد كانت شمعة تحترق لتضيء للآخرين وتختزن الكثير مما يدور حولها من المشاكل والمنغصات بقلبها الكبير ولا تبدي أي شكوى أو تذمر لأحد صابرة محتسبة.
لقد كانت أماً ليس لأولادها وبناتها فحسب بل لكل من يعرفها يستشيرها ويلجأ إليها لأخذ نصحها وتوجيهها.
ليتك يا أم أحمد سمعت شهادة زوجك ورفيق دربك حينما خاطب معزيك بأنه لم يسمع منك طيلة حياته معك والتي تجاوزت الستين عاماً كلمة نابية أو مزعجة أو رفضاً لطلب أو مخالفة لأمر بل وكما قال نعم الزوجة له ونعم الأم لأبنائه وبناته وهذه الشهادة من زوجك عبدالله الحسيني إنما هي شهادة حق وصدق إن شاء الله فيك نرجو من الله أن تدخلك جناته جنات النعيم مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة).
رحمك الله يا أم أحمد
أحبها الصغير والكبير وكل من عرفها وبكى عليها كل من سمع بموتها.
رحمك الله يا أم أحمد فلقد حفرتي في ذاكرتي وذاكرة الآخرين سنوات من الحب والتقدير ولحقتي بوالديك إلى جنات النعيم.
اللهم إنها لحقت بواسع رحمتك وأنت خير من يجير، وهي ضعيفة إلى رحمتك فقيرة وأنت سبحانك غني عن عذابها فالطف بها وارحمها وأنزلها منزلة الأبرار، واجعل آلامها في الدنيا آخر آلامها وتجاوز عن سيئاتها وتقبل عنها أحسن ما عمل.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} والحمد لله على قضائه وقدره.