ما أضعف هذا الإنسان، وما أشدَّ مكابرتَه، وعصيانَه، وعنادَه يعلم أنه يتجاوز الحدودَ جميعها في علاقته بربه، فيظلم، ويعتدي، ويسلب، وينهب، ويرتكب أفظع الخطايا والآثام، ويجاهر بالمعاصي، ويخطط تخطيطاً شيطانياً محكماً لتحقيق رغباته، وشهواته، وأهوائه، ضارباً بأوامر ربِّه عرض الحائط، مهشماً في سبيل تحقيق مراده مَنْ يعترض طريقه من المصلحين والمرشدين، متجاهلاً صرخات من يدوس عليهم من الضعفاء والمساكين، حتى أصبحت المعصية له سمةً ومنهجاً، والمكابرة خُلقاً، والظلم والاستبداد مسلكاً لا يحيد عنه في مسيرته القصيرة في هذه الحياة، ويعلم أنَّ نتيجة ذلك هي الخسران الوبيل في الدنيا والآخرة، ومع ذلك يظل في عصيانه ومكابرته.
ما أعجب حالة الإنسان المكابر في زماننا هذا بصفة خاصة. يرى معجزات الله في الكون والحياة رأي العين بسبب ما فتح الله عليه من أبواب العلم والمعرفة وما هيَّأ له من أسباب بناء الحياة وتطويرها، ويشاهد من مظاهر الكون وبعض أسراره العجيبة ما يبهر عقله، ويتجلَّى أمام عينيه شمساً ساطعة تنشر أنوارها في كل مكان، ومع ذلك يتمادى في ضلاله وتضليله، ويدَّعي من القدرة ما لا يتناسب مع ضعفه، ووهنه، وانكساره، وقلَّة حيلته.
انظروا -أيها الأحبة- إلى فَزَع الدُّول هذه الأيام من انكشاف حزمةٍ من الوثائق. الله وحده يعلم لماذا انكشفت وكيف انكشفت- وانظروا إلى هذا الضجيج الإعلامي المصاحب لهذه الوثائق الهاربة من صناديقها المغلقة، حتى أصبحت زاداً إعلامياً مزعجاً، وربما يكون غذاءً ساماً يميت العقول والقلوب، ويقضي على ما تبقى من آمال وأحلام الضعفاءِ والمحرومين الذين تتعالى أصواتهم -بعد هذا الكشف الوثائقي- معبرين عن انطماس ما كان باقياً في نفوسهم من أملٍ في نيل حقوقهم، وإن كانوا فرحين بما يسمونه الفضائح التي تكشف لهم أسرار ما تعاني منه الحياة المعاصرة من الحروب والويلات، والفساد والإفساد، والظلم والاستبداد.
وما فائدة الفرح بفضائح لا يملكون لمرتكبيها عقاباً، ولا يستطيعون منهم انتقاماً، ولا يطمحون أن ينالوا منهم -بعد هذا الكشف- عدلاً أو إنصافاً.
إنَّ الدول المسيطرة على هذا العالم بقسوتها، وقواها المادية، وعدتها وعتادها وشياطينها من الإنس والجن، ما تزال مغرورة بما وصلت إليه من مظاهر التسلط والاستبداد، ولهذا فإنها تدوس على جميع ما يفضحها من الوثائق، مهما كانت فظاعتها، بل إنها تجعل من هذه الوثائق وسيلة ضغط على من يسير في ركابها من الدول، والأنظمة والأشخاص، لتحقيق ما تبقى لديها من خُطَط الهيمنة، والتسلط، والإفساد السياسي والاجتماعي والثقافي، وامتصاص خيرات الناس في كل مكان.
وهذه الحالة من المكابرة، وعُمْق الغفلة، هي التي تقرّب أصحابها من عقاب الله العاجل الذي يُحدث بصورة غير متوقعة، ويأتي قوِّياً جارفاً سريعاً، يتهاوى به الباطل حتى يصبح بين عشيةٍ وضحاها أثراً بعد عين -وفي التفكك المذهل لكيان الاتحاد السوفيتي موعظة وعبرة-.
ماذا نقول عن وثائق «ويكيليكس» التي أصبحت المادة الإعلامية الأولى في هذه المرحلة؟؟
إنَّ أعظم درس في كشف هذه الوثائق هو تذكير الإنسان العاقل الواعي، المؤمن بربه سبحانه وتعالى، بفظاعة الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى حينما يوضع الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، في موقف لا مجال فيه للرجوع، والاعتذار، وتصحيح الخطأ، ولا مجال فيه للإنكار، والتغطية، والادعاء، إنه الدرس الذي يذكرنا بقوله تعالى في سورة الكهف ?وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا?.
أمام وثائق (ويكليكس) يمكن الإنكار، وتجنيد الأموال والرجال لستر ما انفضح، أو التشويش عليه ليضعف الأثر السلبي للفضيحة على أصحابها، ويمكن التعامل مع صاحب الموقع بالمساومة حيناً، وبالتهديد حيناً آخر -مع يقني أن هذا الكشف ألعوبة من ألاعيب السياسة القذرة-، أما مع الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فلا مجال لإنكار، ولا لمساومة، ولا لتهديد.
لو كانت الدول الإسلامية -بما فيها العربية- على علاقة وثيقة صحيحة بربها سبحانه وتعالى لما وضعت نفسها في هذه المواضع المؤسفة من الضعف، والوهن، والخوف من وثيقة تنكشف، أو وسيلة إعلامية تقتات من الفضائح، كما يقتات «الخنزير» من القاذورات.
يبقى أن أقول لنفسي وللأحبة القراء: ما أحوجنا إلى أن نكون أكبر وعياً بمثل هذه المواعظ التي تُساق إلينا، فنكون على مستوى مراجعة أنفسنا في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، ليزداد يقيننا بأنه لن يخذلنا وأن جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة.
إشارة:
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.