كتب الشيخ محمد بن إبراهيم، مفتي الديار، رحمه الله نصيحة في التحذير من العينة فقال: «فمن أنواعه (أي الربا) التي يتعاطاها من قل نصيبه من مخافة الله البيع ب»العينة» وهي أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل ثم يشتريه البائع أو شريكه أو وكيله من المشتري بأقل مما باعه به، وهذا لا يجوز» انتهى.
وتشخيص مفتي الديار السعودية - رحمه الله - للعينة الثلاثية لا يتجاوز معظم ما تفعله البنوك التي تزعم بأنها بنوك إسلامية؛ فهي تشتري مما يباع ويشترى في البورصات أو عند التجار عند طلب المقترض ثم تبيعها على المقترض بثمن مؤجل يحتوي على قيمة الفائدة، ثم يشتريه شريك البنك أو وكيله من المقترض بقيمة صافية من غير الفائدة ويحصل المتمول بذلك على المبلغ الذي يحتاجه ويسدد الفوائد وأصل القرض للبنك. وليسأل القارئ نفسه أو جاره أو من يشاء من الناس تاجرهم وفقيرهم: أليس هكذا حصل على التمويل؟ هذا إن كان يعلم أصلاً ما اشترى وباع! فسبحان الله ما كان (ربا) يتعاطاه من قلَّ نصيبه من مخافة الله في الأمس القريب كما قال مفتي الديار، أصبح الآن دينا يُحمل الناس عليه حملا ويدفعون مقابله كلفة أعلى، ويُدعى منظروه بالمشايخ وخبراء الشريعة وأهل الاختصاص بينما يُقذف المخالف بالربا والفسوق. وكذلك أتى في نصيحة الشيخ محمد بن إبراهيم السابقة، التحذير من الحيلة حيث كتب - رحمه الله - في قلب الدين على المعسر»ولكن من الناس من لا يُصرح بقلب الدين مخافة الإنكار عليه، فيتوصل إلى غرضه الفاسد بالحيلة المحرمة بإظهار عقد سلم، فيدفع إلى الفلاح دراهم هي رأس المال السلم في الظاهر، وبعد ما يقبضها الفلاح يردها إلى التاجر عما في ذمته من الدراهم، ويسمون هذا «تصحيحاً» وهو باطل غير صحيح، إذ العبرة في الأشياء بحقائقها» انتهى. وهذا ما تفعله بنوكنا في إعادة التمويل وغيرها مما يسمونها «منتجات إسلامية». وانظر إلى قوله - رحمه الله - «بالحيلة المحرمة» وقوله: «إذ العبرة في الأشياء بحقائقها». وهذا ليس قوله فقط، بل هذا هو أصل الدين وأصل العقل عند عقلاء الإنسانية كلها.
وإذا تجاوزنا الناحية الشرعية إلى الناحية الاقتصادية فآثارها كلها سيئة؛ فمنتجات صيرفة الحيل لا تتعدى في الغالب أموراً خمسة: إما بيع وشراء صوري بالعينة الثلاثية - كما وصفها ابن إبراهيم - في أسواق شيكاغو وغيرها للسلع، فيتكسب منها الأمريكي والأوربي. وإما عينة ثلاثية في سوق الأسهم عندنا تنتج عنها مضاربات تربك السوق. وإما الدخول بين تاجرين اعتادا أن يورد أحدهما للآخر - كتاجر حديد ومُصنع - لإجراء عملية صورية «لتحليل» التمويل، وفي هذا وفي المرابحات الصورية الأخرى إطالة طريق وزيادة كلفة بلا فائدة اقتصادية وما هي إلا إحياء لفقه «التيوس المحللة». وآخرها صكوك، هي سندات تماماً لا فرق سميت بأسماء متنوعة، إلا أنها لا تدفع الزكاة وتباع - بالنسبة للمخاطرة المصاحبة لها - برخص يكون في صالح من يدفع للخبراء «الشرعيين».
وإذا تجاوزنا ذلك كله فنحن نؤسس لدين خرافي لا يعتمد الواقع ولا النية والحقيقة في المعاملات، ونُشرع الكذب ونطالب به عند توقيع العقود؛ فالبنك والمتمول والوكيل كلهم يعلمون أنهم يكذبون عند توقيعهم للعقود.
نتشدق نحن المسلمين بواقعية الإسلام ونفتخر على غيرنا من الأمم ممن قالوا واحدا في ثلاثة وممن قالوا بولاية الفقيه وممن يعبدون القبور والأولياء ولكن مما سكت عنه، أننا بما نفعله في تسليم عقولنا لصيرفة الحيل لهو أعظم وأطم. فنحن سلمنا عقولنا في المعاملات التي يحكمها الشرع عن طريق العقل والقصد والنية وهم سلموا عقولهم في العقائد التي تُسلم فيها الأمور، فشتان بين عقولنا وعقولهم.