«إن العالم اليوم يحتاج إلى الجريء والمضحي في سبيل الإنسانية لوضع حد لسطوة ظلم الجبناء وقمعهم»، هذا الكلام منسوب للسيد جوليان أسانج صاحب موقع «ويكيليكس» تعليقاً على حصوله على جائزة مجلة «إيكونومست» لمقاومة الرقابة عام 2008م، وفي عام 2009م حصل على جائزة منظمة العفو الدولية لكشفه للإعدام الجماعي بغير محاكمة للمعارضين في كينيا.
حينها كانت كل ديموقراطيات العالم ودعاة حقوق الإنسان والحريات الصحفية يمجدون هذا الرجل وفريقه، ويضعونه فوق الشبهات، إلى أن نزعت جرأته ورقة التوت عن الديموقراطيات نفسها فعرّاها بنشر وثائق سرية صادرة عن دبلوماسييها وأجهزة مخابراتها كشفت عداءها للحرية والديموقراطية عندما تمارس ضد مصالحها.
إلى درجة أن دولة مثل السويد العريقة في الديموقراطية وحماية الحريات والمدافعة عن حقوق الإنسان وحرية النشر، والتي أذنت بإعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- في بلدها تحت دعوة حرية النشر، هذه الدولة سارعت في نبش ملفاتها وسرعان ما أصدرت مذكرة حمراء تلقفها الإنتربول لاعتقال «أسانج» بتهمة التحرش الجنسي والاغتصاب، عندما عجزت الديموقراطيات المفضوحة عن العثور على تهمة ضده تدين نشره لهذه الوثائق السرية.
المفارقة أن هذه الديموقراطيات عوّدتنا في حالات مشابهة أن يقسم رؤساؤها على البحث عمن سربوا تلك الوثائق واعتقالهم ومحاكمتهم تحت قوس العدالة، فما الذي حصل حتى ينصب التجريم على الناشر دون المسرِّب، والمسرِّبون محصورون في فئة محددة تملك وحدها الإطلاع على تلك الوثائق.
ترى هل تجرؤ الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت على لسان كبار مسؤوليها عن حجم الضرر الذي أصابها بسبب نشر هذه الوثائق التي لم تكن الأولى من نوعها، على اعتقال كبار ضباط مخابراتها ودبلوماسييها والتحقيق معهم واكتشاف من خان ومن سرب؟.
كان والدي -رحمه الله- يردد «أمي وأبوي وكبر بلواي» عندما تحل به مصيبة أبطالها أهل بيته، ولعل كبار المسؤولين في البيت الأبيض يرددون الآن نفس القول، فهم غير قادرين على محاسبة أعوانهم وإعلان كيف وصلت تلك الوثائق إلى «ويكيليكس»، فشنوا جام غضبهم على الناشر وهددوه بالويل والثبور وعظائم الأمور.
المشكلة بالنسبة لهم أن «أسانج» وفريقه يدعون أنهم ليسوا ناشرين فقط محايدين، بل إنهم عقائديون ذوو أهداف، أولها كشف اعتداءات وتجاوزات دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية على الحرية والديموقراطية التي تنادي بها، وثانيها تحرير الوثائق التي تصنع التاريخ من الأقبية السرية المحتجزة فيها، وثالثها تحرير الصحافة من قيود الإعلانات المدفوعة والمصالح المسيّسة والدبلوماسية المواربة.
لا أدري حقيقة دوافع «أسانج» وفريقه من نشر هذه الوثائق، ولا إلى أي مدى سيصمد «أسانج» وفريقه وهم يلاحقون ويعتقلون، لكني أعلم علم اليقين من أن مقارعة الولايات المتحدة الأمريكية أمر يصعب على الدول فما بالك بفرد كل سلاحه موقع إلكتروني، وعليه فإن هذا الموضوع سينتهي قريباً إما بصفقة أو بصفعة، على الرغم من إطلاق «أسانج» بكفالة مع أسورة في معصمه لتتبع تنقلاته، وهو يخشى أن يرحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية بتهمة التجسس.
عندما عدت إلى المنجد في اللغة العربية عن معنى «ويكيليكس» تبين لي أن الأحرف الثلاثة الأولى «ويك» هي كلمة تعجب مركبة من «وي» وكاف الخطاب، ولعل التعجب مما يجري يكون خاتمة مناسبة لهذه المفارقة.