الكتابة في المنام محاولة عميقة للتعبير، حين لا يكون الواقع في اليقظة يستوعب الأحلام...
لاحظت ذلك كثيرا عند من يملك قدرات مكينة للكتابة، لكنه لم يدرِّبها في الواقع، لأن التعايش مع القلم ليس متعة فقط، وإنما رفقة، حين يمنحها الكاتب جلَّ ما يملك من الدفق, لا ينضب لها درب، ويبقى أخضر بهما...، ذلك لأن القلم أكثر ما يعطيه لرفيقه الذي لا يهمل حاجاته, هو هذه الوثبة اليقظة، والمبادرة الصادقة, في اللحظة التي يستلهمه فيها الكلمة الحاوية، للمعنى الحائم في صدره،..
وأصعب الفرقة بينهما، هي انصراف القلم عن صاحبه، حين يهمله، فلا يغذي روافده، ولا يُشبع نَهمَ حاجته، ولا يُعدُّ لمحبرته ماءها..., ولأن الماء سر الحياة، فإن القلم, لا تنبض فيه روحٌ لا تُغذى بالريِّ..
ومن غذاء روح القلم، جعله اللسان المتحدث، في الجهر والصمت، وعدم إغفاله،في كل أمر, إذ حين يُغفل فإنه شديد القسوة في الهجر.., وهجر القلم شاقٌ على رفيقه.., فهو لا يعود بيسر، ولا يمكِّن من ديمومة الرفقة الندية بينهما بسهولة..
لذا فالذين يهجرون أقلامهم، يفقدون الصلة الحميمة برفقتها, ومنهم من يحلمون كثيرا بتدفق أفكارهم، وبسلاسة تصنيفهم لها، وبإفراغها في عبارات تبهرهم في منامهم، فمنهم من يستيقظ إلى قلمه مسرعا، غير أن قلمه لا ينجده في اللحظة تلك، كمن لسان حاله يعتب في صمت: «أينك عني من قبل»..., ومنهم من له ذاكرة جيدة، ربما يكون قد دربها على الحفظ، فتتمرد على قلمه وتأتيه بما كتب في منامه، أو بشيء منه، غير أنه غالبا ما يضرب أخماسا في أسداس وهو يردد: «لكنها ليست بجمال ما صيغت في المنام» لأن قلمه تمرد أكثر, ولم يسعفه بتدوينها لحظة يقظته، مع أنه يتذكر ما كتب,... وندرة منهم من يبقى له من كتابته في المنام بيت من قصيدة عصماء، أو بيتان،. وغالبا ما يتواطأ القلم المهجور, مع وعيه, لطمس ما كتبه في المنام، ففي تلك اللحظة, يتخلى القلم عن خاصة النسخ، والوعي عن الاستعادة،..
وحين يكون القلم هو ذاكرة صاحبه، فلأنه لا يعمل، ولا يأخذ صفته, دون وعي رفيقه، عند الوفاء للرفقة، وصد أبواب الهجر بينهما, إذ هو يكسب منه صفاته وسماته، وهو أيضا إن شئنا نقول, المعين للذاكرة على الاسترجاع، والوعي على الوثوب..,...
لذا تتضافر في الإنسان ملكات تعبيره، وقدرته على البوح،..وحين يحلم بالكتابة في المنام، فهو يسعفه كثيرا، وإن عصت عليه ذاكرة الوعي، من اللاوعي، ذلك لأن في الإنسان جنودا، متى أباح لها ساحاتها، فإنها ستكون له في لحظة العسرة...
على عكس ما يكون بينهما، من تعطيل رغبته في النطق, حين يكون هاجرا لقلمه، لأن قلمه لن يغفر له هجرته..,
فلا يقل أحد ما، بأن ليس للقلم علاقة بما يكتب في المنام، إلا حين لا يكون للرفقة بينهما حصانات البقاء. وكذا حين يحسب المرء, أن القلم هو هذا الجزء المادي من المعدن, أو الخشب.. أو الحجر.., أو الريش.., أما حين يعلم بأن القلم يمكن أن يكون طرف بنان كفه، أو رمشة جفنه، أو إبهام قدمه، وأنه وعي الإنسان وذاكرته،.. فإنه حتما، سيذهب فيُعمل عقلَه, في التفكير بين كل هذه العلائق, والعلاقات, في مشروع الكتابة. فهي تبدأ، وتنتهي برفقة لا تكل، وضخ لا يمل. لذا يُقال: «القلم صاحبه».., فهل يختلف الإنسان عن نفسه عند يقظته, ومنامه...؟...
لكن، الواقع وحده الذي يأتي في اليقظة، وفي المنام، فإن كان جميلا, تتضافر الرفقة بينهما لوسمه.., وإن كان لا يستوعب الطموح لرسمه، يذهب الرفيقان نحو آفاق الحلم بما لا يستوعبه واقعهما من الجمال.., ولمالا تحتمله مثاليتهما من القبح فيه.