وأتذكّر في هذا الصواب أن الترقب المحبط (لجرس) التقاعد قد يجعل أحدهم يسعى ما وسعه السعي لاستمرار خدمته بعد حلول أجل الرحيل من كوكب الوظيفة، وقد يدفعه الحرص إلى المطالبة اللاهثة لإعادة تقدير عمره كي يستمر ارتباطه بالوظيفة أو يلتمس تمديد خدمته من لدن صاحب الصلاحية إبعاداً (لشبح) التقاعد، أو قراراً منه، وفي هذه الحالة، يتحول (المنزل) في ذهنه إلى (سيبريا) مظلمة صامتة متجمدة ينفي إليها أحلامه وآماله، ويغدو فيها حطاماً!
ونحن كمجتمع نجني أحياناً على المتقاعد حين نتصور أن ارتباطه بالوظيفة عدداً من السنين أكسبه (المناعة) ضد العطاء، ونعلل ذلك بجدلية لا يدعمها منطق ولا دليل، وهي أن المتقاعد وهب من نفسه الكثير، عقلاً وروحاً وأرقاً، فما عاد يقوى على أداء شيء، ومن ثم، نُسهم بأسلوب أو بآخر، في تنمية الشعور لديه بالخواء النفسي والإحباط المعنوي، ونرسله رغم إرادته إلى (زنزانة) الإفلاس المعنوي ليمضي فيها ما بقي له من عمر!
وبعد..
أمام هذه التحديات التي يعيشها المتقاعد بينه وبين نفسه من جهة، وبينه وبين الناس من جهة أخرى، يمكن أن تبرز صور التفاؤل التالية:
أولاً:
نستطيع كمجتمع أن ننفي عن أنفسنا تهمة الإهمال المعنوي للمتقاعد، فنخصص أسبوعاً من العام باسمه لتكريمه، ونشارك في إحيائه بكل مرافقنا وفعالياتنا الوظيفية والإعلامية والتربوية.
ثانياً:
يمكن النظر في إعداد دليل للمتقاعدين تسنده (قاعدة معلومات) متينة تحدّث كل عام، يضم معلومات عنهم والأدوار التي أدّوها والخبرات التي اكتسبوها، ويكون هذا الدليل مرجعاً أميناً لمن شاء يمكن في ضوئه اختيار بعض الفعاليات المتقاعدة لأغراض متفرقة، إنْ للخدمة مرة أخرى في موقع ما داخل الحكومة أو خارجها، أو لتقديم المشورة والرأي في ضرب من ضروب العمل الذي تمارسه هذه الجهة أو تلك، وأعتقد أن المردود المعنوي لوجود مثل هذا الدليل حريُّ بالشفاعة لوجوده، وأتمنى على الجمعية الوطنية للمتقاعدين اتخاذ ما يمكن حيال هذا الاقتراح، إنْ لم تكن قد اتخذت مبادرة في هذا السبيل.. أصلاً.
ثالثاً:
هناك من بين المتقاعدين من أبلى بلاءً حسناً قد يبلغ أحياناً حد البطولة الفذة والتميز المبدع، ويمكن النظر في تكريمهم تكريماً خاصاً، ومنحهم ميداليات وجوائز مادية، تُقرن بطقوس احتفالية معينة تبرز أهمية المناسبة وجدواها.
وبعد.. مرة أخرى:
فإن للمتقاعد علينا إلتزاماً ألا ننكر له حقاً، مثلما أن من حقه هو على نفسه ألا يربط بين فكرة التقاعد وصقيع المنفى، فدوام الحال من المحال، لأن الإنسان بطبعه يفتقر إلى التغير والتغيير لا كغاية بل وسيلة لإعادة اكتشاف مواهب النفس، وتوظيفها توظيفاً إبداعياً يحفظ للمتقاعد كرامته، ويقوي صلته بالحياة والأحياء!.