كالعادة أتحفتنا (الجزيرة) بتغطية متميزة للمحاضرة القيمّة، التي قدمها المفكر الدكتور عبدالله الغذامي حول واقع ما يسمى ب(الليبرالية السعودية) تحت عنوان: (الليبرالية الموشومة)،
خلال استضافته في فعاليات البرنامج الثقافي (تواصل) بجامعة الملك سعود بالرياض، فلم يتردد المُحاضر عن إطلاق آراء جريئة مدموغة بشواهد واقعية عن هذه الليبرالية الشبح، سواءً على مستوى البعد المعرفي لدى مثقفيها والزاعمين بها، أو على مستوى تطبيقاتهم لها على أرض الواقع المحلي، لدرجة أن الدكتور الغذامي لم يكن ضبابياً أو مجاملاً، إنما مباشراً وعلنياً في ذكر بعض الأسماء والوقائع التي تعزز منطقية فكرته المحورية القائمة على نفي الإدعاء بوجود ليبرالية في المملكة، سواءً الأفراد المثقفين أو المجموعات النخبوية. يقول في محاضرته: (لم نجد أي مؤشر على الإطلاق عن مثقف سعودي قال عن نفسه أو مجموعته أنه ليبرالي، وأن مصطلح الليبرالية أتى مع أقلام وألسنة الصحافيين الغربيين، الذين جاءوا إلى المملكة العربية السعودية وبالتالي فإذا ما عادوا إلى بلادهم فإنهم يكتبون عن المجتمع ويبدؤون يصنفون المجتمع إلى محافظ وليبرالي).
بعد هذا ما عسى دعاة الليبرالية أن يقولوا عن الدكتور الغذامي ورؤيته المناقضة تماماً لرؤيتهم؟ خاصةً أنها جاءت من قامة فكرية تكتنز عمقاً بالوعي الحضاري، وفهماً واسعاً بالقضايا الإنسانية، ومعرفة ثرية بالنظم والفلسفات الغربية، بحيث لا يمكن التشكيك في خلفيتها الثقافية أو تسطيح معرفتها الفكرية.
أو هل يمكن لهم أن يصفوا الغذامي بالديني المتشدد الذي يرفض الأفكار الجديدة، أو ينعتوه بالمفكر الإسلامي المتطرف الذي يعارض التبادل الثقافي بين الدول والحوار الحضاري بين الأمم؟ قطعاً لا.. لأن تلك الآراء صدرت من ناقد ومفكر غير محسوب على أي تيار فكري في المشهد السعودي، لذا هو يتصف بالحيادية في كثير من مواقفه الفكرية، فضلاً عن تحليه بالموضوعية التي أكسبته مصداقية عالية في أطروحاته الثقافية وتصريحاته الإعلامية.
الأمر المهم في محاضرة الغذامي أنها شكلت توصيفاً متكاملاً للوهم الليبرالي، ورسمت واقعاً مؤلماً للمثقفين السعوديين الذين يتبادلون هذا الوهم الفكري ويحاولون تسويقه في مجتمعنا، فقد ساق بعض الأمثلة الحاضرة في الذاكرة السعودية، يقول الغذامي: (كما أن المثقفين الليبراليين لم يكتب واحد منهم عن قرار وقف الانتخابات في الأندية الأدبية).
بل إنهم لا يجيدون إلا الصراخ تجاه الفتاوى، فيشير إلى أن من يسمون بالليبراليين المثقفين يصرخون بأقسى صوت ممكن تجاه الفتاوى، التي لا تروق لهم وهم يريدون حجب تلك الفتاوى والآراء فأين هم من الليبرالية التي تنادي بحرية الرأي وحرية التعبير، كما تنشط أقلامهم في انتقاد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناهج التعليمية والخدمات العامة وغيرها، وهي برأي الغذامي موضوعات بعيدة عن اختصاصهم، لأن الأولى التركيز على قضايا الفكر الليبرالي.
والدكتور الغذامي بهذه الأمثلة يؤكد ما سبق أن كتبته وكتبه غيري في إطار ازدواجية الخطاب الليبرالي السعودي بين المبدأ والتطبيق، فبالأمس طالبوا بالانتخابات البلدية وعندما جاءت النتائج لغير صالحهم، خرج أبرزهم وعلى الصفحة الأولى لإحدى صحفنا المحلية قائلاً: إن المجتمع السعودي لم ينضج بعد، كما يشنعون بالآخرين الذين يفرضون وصايتهم على المرأة، وهم يمارسون ذات الدور بفرض الوصاية على المرأة من خلال حصر قضاياها بقيادة المرأة للسيارة والأندية الرياضية وتجاهل قضاياها الكبرى كتقرير الأهلية والأمية والفقر والعضل وغير ذلك.
أما الفتوى فلهم معها قصة تشبه الجدل البيزنطي حول البيضة والدجاجة! فإن أعجبتهم الفتوى صفقوا لها وطالبوا بتفعيلها، وإن لم تعجبهم اعتبروها غير ملزمة لأنها مجرد (رأي)، وإن صارت (رأياً) رفضوه وحاربوا صاحبه لدرجة الإقصاء الإعلامي.. وغير ذلك كثير من شواهد واقعية تبرهن على أن أزمة أدعياء الليبرالية هي في فهمهم لفكرها ومأزقهم في تطبيقهم لمبادئها.