جزى الله خيراً الدكتور (يوسف القرضاوي) فقد ذكّرنا من خلال برنامجه في قناة (الجزيرة) برنامج (الشريعة والحياة) والذي عرض قبل مدة قصيرة أن الدكتور (محمد فتحي عثمان) قد أصبح في ذمة الله منذ ثلاثة أو أربعة أشهر! وأنه لم يتنبه إلى ذلك إلا بعد أن كتب له بعض محبيه في هذا الموضوع!!
هكذا إذن مات هذا الرجل الحبر البحر العَلَمُ، وتوجّه إلى لقاء ربه، وهو واحد متفرد في أبحاثه ومعلوماته وعطاءاته في العالم الإسلامي.. مات ولم يعلن عن موته... مات دون أن تنكس له الأعلام، وتعطل من أجله الأعمال.. مات ولم تبدل برامج وسائل الإعلام إلى برامج أخرى تناسب الحدث، وتذكّر بالفقيد الكريم العزيز الفذ!
.. ولو كان (محمد فتحي عثمان) علماً من أعلام الرياضة، أو واحداً من المشتغلين بالفن، أو شخصاً من المتعاطين في السياسة، أو رباً من أرباب المال، لنكست له الأعلام، وقرعت له الطبول، وتوقفت له الأعمال وتغيرت في أجله برامج الإذاعة والتلفزيون.. لكنه واحد من أعلام الفكر والبحث، ورائد من رواد العطاء والخير، وواحد من حملة مشعل الدعوة الحضارية الإسلامية، الداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن!!
في بدايات المرحلة الثانوية التي صادفت النصف الثاني من خمسينيات القرن الميلادي الماضي اقتنيت كتاب (أضواء على التاريخ الإسلامي)، وكان عمري آنذاك حوالي ستة عشر عاماً.. والكتاب لمؤلفه الدكتور (محمد فتحي عثمان) عليه رحمة الله.. وكان ذلك الكتاب أول لقاء لي مع هذا الإنسان!!
أما لقائي الثاني بالدكتور (محمد فتحي عثمان) عليه رحمة الله فقد كان بعد حوالي عشرين عاماً لكنه كان هذه المرة لقاء مباشراً وجاهياً، وفي رحاب المعهد العالي للدعوة الإسلامية في (الرياض).
كان هذا المعهد العتيد قد افتتح في عام (1397) هجرية على ما أذكر وكنت واحداً من الثلاثمائة رجل، الذين شكلوا الدفعة الأولى من الملتحقين في هذا المعهد.. وكان مديره الدكتور (عبدالله بن عبدالله الزايد) الذي صار فيما بعد مديراً (للجامعة الإسلامية) في (المدينة المنورة) ووكيله الشيخ (سعود البشر)، متعهما الله بالصحة والعافية ومنحهما العمر الطويل.
وقد سمح المعهد في ذلك الحين أن ينتظم فيه الدارسون من حملة الشهادات الجامعية على اختلافها، وتلك خطوة موفقة رائدة، فقد كان من بين الدارسين فيه حملة إجازات جامعية في علوم الدين والطب والهندسة والزراعة والعلوم والقانون والصيدلة والآداب وخريجو الكليات العسكرية وغيرهم من حملة الشهادات الجامعية!
وقد كانت الدراسة فيه تبدأ بعد صلاة العصر مباشرة وتنتهي بأذان صلاة العشاء بصورة يومية عدا يوم الجمعة بطبيعة الحال.
وقد درست في هذا المعهد المبارك السنوات الثلاث اللازمة لمرحلة (الماجستير) كنت في الأولى والثانية (مديراً لإذاعة الرياض) وكنت في الثالثة مكلفاً بعمل (مدير عام الإذاعة)!!
وعلى الرغم من ذلك فقد كان ترتيبي في نهاية السنة الأولى (الخامس)، وكان ترتيبي في السنة الثانية (الرابع)، وكان ترتيبي في السنة الثالثة والأخيرة (الأول) على دفعتي والحمد لله.
وقد شكل هؤلاء الرجال، الشيخ (مناع القطان) والشيخ (عمر المترك) والأستاذ (زين العابدين الركابي) الإعلامي الصحافي المعروف والدكتور (عيسى عبده) الباحث الاقتصادي الإسلامي الفذ، والأستاذ (محمد فتحي) الإعلامي الإذاعي الكبير، والشيخ (محمد عبدالرحمن الراوي) الداعية العلم، والدكتور (أديب الصالح) والدكتور (خليل ملا خاطر) والدكتور (محمود الطحان)، والدكتور (عبدالستار السعيد)، والدكتور (عبدالغفار عزيز) والدكتور (صالح محي الدين) والدكتور (محمد سلطان) والدكتور (عمارة نجيب).. شكل هؤلاء الأساتذة الكبار طليعة من تولّوا تدريسنا في (المعهد العالي للدعوة الإسلامية).. وكان الدكتور (محمد فتحي عثمان) عليه رحمة الله الباحث الموسوعي، والإمام العلم الفذ في مقدمة هؤلاء الأخيار الأبرار من الرجال السعوديين والمصريين والسوريين والسودانيين، متّع الله من كان منهم على قيد الحياة بالصحة والعافية، ورحم الله من سبقنا منهم إلى الرفيق الأعلى برحمته الواسعة.
كان الأستاذ الدكتور (محمد فتحي عثمان) في السنتين الأولى والثانية في المعهد أستاذنا في مادتي (السيرة النبوية) و(الحضارة الإسلامية)، وكان من المحاضرين المميزين الذين لا يمكنك وأنت تدرس في ظلاله إلا أن تبكّر بحضور محاضرته والحرص على أن تحجز مكاناً لك في مقدمة الصفوف.
كان يرتجل محاضراته بعد تحضيرها تحضيراً فائقاً.. وكان هادئاً في إلقائها، واثقاً مما فيها من معلومات حريصاً على تحليتها بالشواهد وخاصة الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية.. ولا زلت أذكره وهو يقدم إحدى محاضراته مستشهداً بآية (الدين) في القرآن الكريم، وهي أطول آية كما هو معروف، كيف كان يتلوها بثقة وطمأنينة وتأثير في غيره، من غير لجلجة ولا فأفأة ولا لكلكة!!..
كانت محاضراته إذا بدأت فكأن على رؤوس سامعيها الطير، تسمع رنين الإبرة إن وقعت على الأرض!
وإذا بدأت تلك المحاضرات لا تشعر بانتهائها، لشدة التعلق بها، والقناعة بعظم فائدتها، والرغبة بأنها لو تدوم أكثر!!
كان عمري آنذاك يقل عن الأربعين بسنتين أو ثلاث، وكان عمره عليه رحمه الله في ذلك الوقت يزيد على ستين عاماً بسنتين أو ثلاث سنوات.
أذكر في تلك الفترة من الدراسة في (المعهد العالي للدعوة الإسلامية) كنت على موعد في يوم من الأيام مع عميد الكلية التي كان يعمل فيها الدكتور (عثمان) عليه رحمة الله. وهذا العميد صديقي وهو ممن يعرفون الفضل لأهل الفضل وحينما اقترب الموعد، توجهت إلى مكتب (العميد) ففوجئت بالدكتور (محمد فتحي عثمان) جالساً في غرفة (السكرتير) التي توصل إلى غرفة (العميد).. وجدته يعمل جالساً وراء طاولة صغيرة تستخدم عادة لتكون مرتكزاً للآلات الكاتبة! والسكرتير جالس وراء مكتب كبير!
دخلت على العميد وقلت له: من هو هذا الجالس مع سكرتيرك وراء طاولة مستقلة؟
قال: هو الدكتور (محمد فتحي عثمان)! ألا تعرفه؟!
قلت: بلى أعرفه! ولكن يبدو أنك أنت الذي لا تعرفه!!!
قال: كيف؟
قلت: كيف ترضى أن يجلس هذا الرجل الكبر ويعمل كموظف وراء هذه الطاولة الصغيرة.. وفي مكتب سكرتيرك؟!
قال: أنت تدري أننا نشغل هذه المكاتب بصورة مؤقتة وأننا ننتظر مبانينا الدائمة وأن المكاتب الحالية محدودة وضيقة!
قلت: إن ضاقت المكاتب وقلّ عددها، فإن الدكتور (محمد فتحي عثمان) يستحق أن تخلي له مكتبك ليجلس فيه.. أو أن تجلسه في غرفتك على الأقل ووراء طاولة لا تقل عن الطاولة التي تجلس أنت وراءها!!
اللقاء الثالث بالدكتور (محمد فتحي عثمان) عليه رحمة الله، قد تم في (لندن) بعد حوالي ثلاث سنوات وفي مزرعة الأستاذ (محمد صلاح الدين) متعه الله بالصحة والعافية، وشفاه الله شفاء تاماً من الوعكة الصحية التي ألمت به في الآونة الأخيرة.
لقد سعدت باللقب الذي خلعه عليه الأستاذ (علي الشدي) وهو لقب (فقيه الصحافة) وأثنى عليه بما هو أهله خبرة ومهنية وتواضعاً وتهذيباً وتعاملاً مع العاملين معه والقارئين لمقالاته وما يكتب.. وأذكر بالمناسبة أنني تعرفت على هذا الرجل الفاضل الكبير عند مجيئي إلى المملكة قبل حوالي ثمانية وأربعين عاماً فقد بدأت العمل (مذيعاً) في إذاعة (جدة) ولعدة شهور قبل اختياري وعدد من زملائي للعمل في (الرياض) استعداداً لافتتاح الإذاعة فيها.
أذكر أنني تعرفت عليه في تلك الشهور من عملي في إذاعة (جدة)، لكنني لا أذكر المناسبة التي تعرفت عليه من خلالها.
ومسألة شخصية أحب ألا تفوتني وأنا أتحدث عن الأستاذ الصحفي الكبير الأستاذ (محمد صلاح الدين) واللقاء الذي تم بيني وبين الدكتور (محمد فتحي عثمان) عليه رحمة الله في مزرعته في (لندن).
أقول: إن هذه المسألة تتعلق بأحد أقربائي المقربين الذين رغبوا بالاقتران بواحدة من قريباته المقربات قبل أكثر من سنتين، وقد فرحت بهذا التوجه أو بهذه الرغبة، ولاسيما أن والد الفتاة هو من أعز أصحابي الذين أحبهم وأودهم وأحترمهم.. وكذلك فإن الأستاذ (محمد صلاح الدين) قد فرح بذلك التوجه وبتلك الرغبة.. ولكن كما يقولون: أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد!!
عندما توقفت مجلة المسلمون التي كانت تصدر في (لندن) في عام 1983 تأثرت لذلك كثيراً، وتألمت أشد الألم وحاولت بكل ما أستطيع إقناع ناشريها في ذلك الحين الأخوين (حافظ) بالتراجع عن ذلك القرار لأنها كانت مجلة أسبوعية إسلامية شابة رائدة مستقبلها واعد يحتاج إلى شيء من الصبر والتحمل إذ كنت أطمع وأنا رئيس تحريرها أن أصل بها إلى مستوى مجلة (الرسالة) الغراء التي كانت تصدر في مصر! ولكن دون جدوى وأصر (الناشران) الكريمان سامحهما الله على إيقاف المجلة وأنهما لو قررا التراجع فإن ذلك سيكبّدهما خسائر كبيرة!!
وحمّ القضاء وتوقفت المجلة وأصابني إحباط وشعور بالفشل لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى مداه!
وفي خلال ذلك وبين ثناياه تلقيت رسالة، ووجهت لي دعوة لا أنسى آثارهما الكبيرة في نفسي وما خلّفاه في القلب من سلوى وراحة وطمأنينة!
الرسالة كانت من الدكتور (ناصر الدين الأسد) العالم الأديب المؤرخ الموسوعي العربي الأردني، جعل الله عمره مديداً، ومتعه بالصحة والعافية والقوة على الدوام.
كانت رسالته تلك تشع بالأمل وتنضح بالتفاؤل، وتدعو إلى الصبر والمصابرة، وتحمّل الصعوبات والمشاقّ، وأن الفرج يعقب الشدة، وأن مع العسر يسرا، والدعوة التي تلقيتها كانت من الأستاذ (محمد صلاح الدين) لزيارته في مزرعته في (لندن) تلك الأيام.
استقبلني بالترحيب والتكريم واحتفى بي، وسمع مني قصة توقف (المسلمون)، وأبدى استعداده التام لتقديم أية مساعدة في سبيل إعادة صدورها.. وكانت كلماته وعباراته ومشاعره تفيض صدقاً وثقة وإخلاصاً..
كان ذلك اليوم يوم جمعة، وشاءت الأقدار أن ألتقي في ذلك اليوم مجدداً وبعد سنوات من لقائي السابق.. أن ألتقي بالدكتور (محمد فتحي عثمان) عليه رحمة الله، وأن نصلي الجمعة في تلك المزرعة، وقد حضرها عدد من العاملين مع الأستاذ (محمد صلاح الدين)، فقد كانت المزرعة مكاناً للعمل أيضاً.. وكان خطيب الجمعة هو الدكتور (محمد فتحي عثمان) طيب الله ثراه.
بعد الصلاة، تناولنا طعام الغداء وتبادلنا أطراف الحديث مع الأستاذ (محمد صلاح الدين) والدكتور (محمد فتحي عثمان)، وقد علمت أنه في ذلك الوقت كان الدكتور (عثمان) يرأس تحرير مجلة إسلامية باللغة الإنجليزية يصدرها الأستاذ (محمد صلاح الدين) تعرف بالإسلام وتدافع عن قضايا المسلمين، وتسلط الأضواء على أقطار وشعوب العالم الإسلامي.
فقد كان الدكتور (محمد فتحي عثمان) يتكلم اللغة الإنجليزية كأحد أبنائها.. بل يكتب فيها ويبحث ويخطب ويحاور كأحد أدبائها.
إنه عالم باحث أديب مؤرخ موسوعي من أبناء أمتنا الأبرار، وواحد من الشخصيات الفذة المعاصرة التي ستبقى آثارها المجيدة على مدى الأيام، وتخلد بصماتها الإيجابية في التعريف بالإسلام والدعوة إلى الله على بصيرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
z-alayoubi@hotmail.com
