ودَّعت بالأمس القريب رجلاً كان من القلائل الذين أعترف لهم بالعصامية الحقيقية، وهي بلوغ أفضل الأهداف بأبسط البدايات وبوسائل كدح نزيهة لا تشوبها شائبة قول ولا فعل. إذاً الموضوع هنا ليس استغلال مكان وزمان حلقة في جريدة لتأبين صديق، لأن التأبين ليس هذا مكانه، بل في صفحات التأبين الاجتماعية المعهودة نثراً وشعراً . الموضوع هو محاولة استغلال المكان والزمان لتذكير القراء، والشباب منهم على وجه الخصوص بما يستطيع الإنسان الصادق مع نفسه أن ينجزه، حتى ولو كان يحفر بأظافره في الصخر.
فقيدي المودَّع الذي كان ثم بان هو عبد الله الناصر العودان (أبو ناصر)، الذي اكتشفت بعد مماته من عظم مكانته عند الناس أكثر مما كنت أعرفه عنه قبل الممات. المقبرة ثم صالة العزاء كانتا تموران بالمعزين من كل الطبقات الاجتماعية والقناعات الفكرية والأطياف المذهبية والانتماءات الجغرافية، جمعهم شيء واحد، هو الحزن على فقيد ليس بصاحب أموال كثيرة ولا أملاك كبيرة، لكنه صاحب عقل وقلب ومراس وصدق.
ذات يوم قبل نحو عشرين سنة جلس أمامي أبو ناصر مع أحد أبنائه في عيادتي الطبية. كان يسعل بشدة والإرهاق باد على كل قسمات وجهه. بادرني قائلاً : اسمع، أنا لا أثق بالأطباء وأعرف أنني لو انتظرت قليلاً لشفيت دون مجهوداتك. لكن الأولاد وهذا واحد منهم أجبروني على طلب استشارتك. قلت له محتداً : إذاً خذ رسم الفحص الذي دفعته عند المحاسب واترك المكان لغيرك ولا تضع وقتي ووقت المرضى الآخرين. ضحك وقال: ما دام هذا اللي عندك تفضل اكشف.
توثقت عرى العلاقة بيننا بعد لقاء التحدي ذاك فأصبحت صداقة، ثم توثقت أكثر بالمصاهرة. أبو ناصر - غفر الله له وغمره برضوانه -ولد قبل نحو خمسة وثمانين عاماً وأنتم تعرفون كيف كانت الأوضاع آنذاك. والده - رحمه الله - كان قاضياً فتعلم منه على لوح الخشب مبادئ القراءة والكتابة. ذهب شاباً يافعاً إلى الظهران فاكتشف هناك ميوله ومواهبه الحقيقية. أصبح ميكانيكياً ماهراً بالتطبيق العملي وأجاد اللغة الإنجليزية بالمخالطة والممارسة، وأصبحت حصيلته من القراءات الثقافية والاجتماعية والسياسية وملكاته في الحوار والنقاش والسؤال والتعليل يحسده عليها حملة الدكتوراه في تلك العلوم. كل ذلك حصل عليه بالكد والطموح والإصرار والتحصيل الذاتي، ولم يحتج في ذلك إلى شهادة علمية واحدة. أنجب من الذرية ابنتين (طبيبة وكيميائية) وستة أبناء، خمسة منهم أكاديميون حملة شهادات عليا في المجالات الهندسية والزراعية والصناعية والتعليم الأكاديمي. وآخر العنقود طبيب تخرج حديثاً وأتوقع له - إن شاء الله - مستقبلاً باهراً في مجاله لأن شخصيته تشي بذلك.
إذاً وباختصار هذا رجل كان عمره عند وفاته خمسة وثمانين عاماً، تعلم في الكتاتيب، أتقن بالممارسة العمل الميكانيكي حتى تحول إلى صناعي ناجح، تربى على يديه ثمانية أبناء أصبحوا كلهم أكاديميين ناجحين، وفوق كل ذلك راكم ثقافة اجتماعية وسياسية يحسده عليها حملة الشهادات العليا، واستحوذ على صداقات صادقة في كل طبقات المجتمع. ألا يستحق هذا الرجل أن يكون مثالاً يحتذى ويتعرف شبابنا على كفاح أمثاله من العصاميين الحقيقيين؟
رحم الله أبا ناصر رحمة واسعة.