زحام في صالات السفر، آلاف الدولارات تُنفق، بسطاء يُمضون ليلتهم أمام شاشات الفضائيات، كل ذلك عناصر مكونة لمشاهد ليلة ساخنة جداً، وبين دقيقة في العام الذي يمضي، وأخرى في العام الجديد،
تتوالى الأحداث الساخنة التي تحمل الكثير من ملامح التناقض؛ فالمشهد العام احتفال بالعام الجديد، وفي كواليس المشهد، كثير من المتناقضات والملامح الفجة.
ازدحام في مكاتب السفر والسياحة، واستعدادات كبيرة، وارتباك رهيب من أجل تغيير خارطة المواعيد عند كبار الشخصيات في مناطق كثيرة من العالم، على الرغم من برودة الأجواء، وعواصف الثلوج التي حوَّلت أوروبا إلى بقعة بيضاء، إلا أن كثيراً من الناس يحبون تغيير الأجواء، والتمسك بعدم كسر ذلك الاعتياد بالسفر والاحتفال بمرور عام ميلادي يلملم آخر أيامه ولياليه، واستقبال آخر، مؤملين أن يكون أقل ارتباكاً من سابقه الذي حمل بين ثناياه الكثير من الملفات الساخنة المليئة بالدموية.
دقيقة فاصلة بين عام يمضي وآخر يهل، ويقبع على الجانب الآخر من المشهد الكوني «فقراء» بسطاء لم تزدهم الأحداث الدائرة حولهم إلا عبئاً فوف عبء متراكم على كواهل الفقراء الذين يجلسون على الجانب الآخر من الكرة الأرضية والعالم الكوني أجمع، وكأنهم لا علاقة لهم بأية أعوام أو عوالم محيطة بهم، يعدون أعمارهم بالأيام القليلة التي يحيونها سعداء بين أبنائهم وزوجاتهم، ولو بالقليل جداً من الزاد.
وما أسرع الأيام حتى يكبر الصغير، ليخف الحمل قليلاً على عاتق رب الأسرة الدائر في فلك الحياة غير مدرك منه بوعي أو بغير وعي، كم من الأعوام أنفق، وغير مهتم بعدد الأعوام الباقية في حياته سواء أكانت قليلة أم كثيرة، فسرعان ما ينصرم العمر، ويُحمل الإنسان على الأعناق مسافراً إلى العالم الآخر، دون تذكرة ولا تأشيرة ولا زحام في صالات السفر، تاركاً وراءه إرثاً من التاريخ، وتعلق صورته على جدار إحدى الغرف التي يرتادها ضيوف الأسرة، وعلى الزاوية اليسرى من الصورة يوضع «شريط أسود»، البعض يترك ذلك الإرث في صالات السفر المكتظة الآن بالمسافرين الذين تعطلت رحلاتهم بسبب برودة الطقس، والبعض يترك إرثه حبات من العرق على جباه أبنائه المتعبين بسبب رحيله المفاجئ في عالم لا يرى ولا يسمع ولا يتنفس غير أخبار المال والبورصات العالمية، والمهتمون بها الآن شاغلهم الشاغل هو إيجاد مقعد على طائرة متجهة إلى بقعة باردة لتمضية يوم يعتقد أنه مفصلي في حياته بانتهاء عام وبداية آخر، مؤملاً أن يكون ضمن قائمة الأغنياء في مجلة «فوربس» الأمريكية، ومعرفة كم كسب من المليارات، وكم خسر، ومن أزاح من.
الآخرون، المتعبون، المنهكون، البسطاء المستهلكون «بفتح اللام» يُنهون آخر يوم من أيام العام في أعمالهم، وسرعان ما يلجؤون إلى بيوتهم منهكين من التعب، محملين بأعبائهم التي لا تنتهي، فغداً سيسأل المعلم الابن عن الكتاب الذي عليه أن يشتريه، والبنت ستسألها معلمة اللغة الإنجليزية عن مدى إتقانها لحفظ كلمات دروسها الجديدة، والمدير سيذهب إلى عمله مبكراً دقائق معدودة حتى يتندر بمن يأتي متأخراً، متهماً إياه بأن سبب تأخير الموظف هو السهر حتى ساعات الصباح الأولى لمتابعة الاحتفالات التي يكتفي منها الكثيرون بال»فرجة» المحسود عليها.
متناقضات كثيرة تمتلئ بها تلك الليلة الساخنة جداً، حسب تعبير المخرج المصري الراحل عاطف الطيب في آخر أفلامه الذي عنونه بهذا الاسم «ليلة ساخنة جداً» لأنها مليئة بالمتناقضات العجيبة، جماعات من الناس تنفق آلاف الدولارات من أجل تمضية دقيقة في العام الماضي وأخرى في العام الجديد، بينما الآخرون الذين يملؤهم فزع الاستيقاظ في اليوم الأول من العام الجديد متأخرين ولو لدقائق؛ فالمدير المتربص دوماً سيتهمهم بالكثير من التهم أقلها الإهمال، وأعلاها أنهم مرفهون لأنهم يتابعون مع زوجاتهم وأولادهم الصغار ببعض قطع الحلوى دقائق معدودة في أعمارهم بعض تفاصيل قليلة من إعلان الساعة الثانية عشرة، لتوديع عام يمضي، واستقبال آخر بقليل من الأمل، لكن هل ستسمح الفتاوى بالاحتفال بهذه الدقائق، أم أن الكثيرين لن يلتفتوا أيضاً لذلك مكتفين بفتوى الشيخ سلمان العودة بأن ذلك الاحتفال من باب إدخال البهجة والسرور على الأسرة ولا حرج.