صديقي متكلس بامتياز؛ وحسب معاييره فالعالم، كل العالم، غربه وشرقه، جنوبه وشماله، حتى من يقطن في الأسكيمو، يخاف منه ومن ثقافته (المتفوقة)، ويخشى أن (يصحوا) المارد المسلم من سباته، فيُحيل نعيم الغرب إلى جحيم، بعد أن يغزوهم ويستولي على ديارهم، ويفرض عليهم ثقافته، ويسوق رجالهم عبيداً، ونساءهم إماء؛ وكل ما يملكون من مؤسسات مالية ومصانع، كالشركات والبنوك وكذلك المؤسسات الحضارية (كوكالة ناسا) مثلاً، تُقسم إلى (أسهم) وتوزع ملكيتها بين رجال الفتح المبين.. وصديقي ليس لديه أدنى شك أن كل ما حوله (مؤامرة) صممها الغرب، خوفاً من يقظة الفاتح العظيم، وجاء أناس من أبناء جلدتنا - كما يقول - لينفذوا المؤامرة الغربية؛ لذلك تقدم الغرب وبقينا نحن متخلفين؛ ليس بسبب أننا أمة لا علاقة لها بثقافة الإنتاج والعلم والإبداع، وإنما بسبب مؤامرات الغربيين وأذنابهم الشرقيين! صديقي هذه الأيام لا يكل ولا يمل من الحديث عن خطورة (الابتعاث)، وانعكاساته المدمرة على ثقافتنا، وقيمنا، وفي النهاية على (تميّز) بلادنا.
وفي السياق ذاته يعتبر أن عشرات الآلاف من الطالبات والطلاب الذين يتلقون تعليمهم في الغرب والشرق هم قطعاً جزء من (مؤامرة) لا يشكك فيها عاقل حسب زعمه.
يقول: كيف سنصنع (جيل النصر) الذي سيُذعن له جبابرة الغرب صاغرين ونحن نُسلم أبناءنا إلى الأعداء ليتولوا تعليمهم وتربيتهم ؟ أعي تماماً خوف الإنسان المتكلس من الانفتاح بشكل عام، ومن (الابتعاث) بشكل خاص؛ على اعتبار أنه بمثابة القناة التي من خلالها يجري التواصل مع الغرب مهد الحضارة المعاصرة ومصدر إشعاعها ومنبع علومها ومعارفها؛ هذا التواصل سيخلق - بلا شك - جيلاً آخر لا علاقة له بثقافة (الحركية الإسلاموية)، قدر علاقته بأصول ومنابع العلم والتقنية والتحضر والتمدن وثقافته.
الحركيون يدركون ذلك تمام الإدراك؛ لذلك فإن خوفهم من الابتعاث هو في النهاية خوفٌ مبرر؛ فالقادم الجديد الذي سيعود مزوداً بالعلم من الخارج لا علاقة له بهم ولا بثقافتهم ولا بمعاييرهم؛ لذلك هم يخافون منه، وترتعد فرائصهم من مستقبل البلاد التي سيتولى إدارة دفتها العائدون من الابتعاث يوماً ما.
أول من ابتعث الشباب السعوديين إلى الخارج - كما يقول التاريخ - هو المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله -.
ثم توالت البعثات بعد ذلك خلال عهود الملوك الخمسة الذين جاؤوا من بعده.
صحيح أن هناك بعض الفترات انكمش فيها الابتعاث، وقلَّ عدد المبتعثين، إلا أن هذا الانكماش كان بسبب ظروف مالية، نتيجة لتدني مداخيل الدولة، وليس لأي سبب آخر؛ الأمر الذي انعكس سلبياً على (كم) من يتلقون العلم في الخارج.
غير أن هذه الظروف ما إن زالت، حتى عادت وفود الشباب تشد رحالها إلى الخارج طلباً للعلم في مظانه، لتنهل من حيث نهل من بنوا نهضات الأمم المعاصرة مثل كوريا واليابان وكذلك بقية النمور الآسيوية؛ فقد كانت بعثات مواطني تلك الدول إلى الغرب في القرنين الماضيين هي أولى خطواتهم ليكون لهم بين الأمم هذا المكان الحضاري الرفيع الذي يتبوؤن فيه الآن.
كل ما أريد أن أقوله هنا إن موقف بعض المتكلسين من الابتعاث يتواءم مع خوفهم من كل (جديد)؛ تماماً مثل ما خاف أسلافهم حينما رؤوا المُنقبين الأمريكيين يتجولون في أنحاء البلاد بحثاً عن النفط إبان عهد المؤسس؛ فذهب خوفهم بينما قادنا تجوالهم الميمون في بلادنا إلى (النفط) الذي نعيش في ظلاله.
إلى اللقاء.