من الأخبار التي يستوقفني مضمونها، وأتفكر في بواطنها، وأميل للحديث فيها، تلك التي تتعلق بفئة الشباب الذين يسلكون خارج أطر الضوابط بما فيها الضابط النفسي..
وأؤمن بأن فوق كل ذي علم عليم، وبأن لا يُسأل إلا الخبير في بضاعته، وبأن إعطاء القوس دوماً لا يكون إلا لباريها..
لكنني، أيضاً أؤمن بأن صاحب القلم قد يكون سبّاحاً، غواصاً، صياداً,.. ذا خبرة، والخبرة هي أمُّ المعرفة, وجودة البضاعة، وبري القوس، لذا لا تخلو شِباكه أبداً..
عُدت أمس من جريدتنا (الجزيرة) بالخبر الذي يدخل ضمن اهتماماتي تلك، فتوقفت: شاب صعد برج الاتصالات في مدينة الوجه، وهدد بالانتحار «إن لم يحصل على سيارة لكزس 2011 وبداخلها فتاة», ذهبت أتفكر في الدوافع التي أوصلته لفكرة الخلاص من الحياة، ثم في المقابل الذي اشترطه، فالجرأة على الإقدام على الانتحار ليست ادعاء، لأنه على يقين من مغبته، إما الموت، وإما العقاب، مهما تفاوتت أنماطه، ودرجاته، لكن المقابل الذي طلبه ظاهره غريزي، وباطنه دوافع خارجة ذات تأثير سالب وضعته في موقف قرار..
ثم تفكرت: ما الذي ينقص الفتى من الإشباع العاطفي، والإيماني, والمادي؟ هل من والديه، أو إغفال الاهتمام به من معلميه، أو عدم تزكيته نفسياً ومعنوياً بين أقرانه، أو داخل أسرته؟.., ما الذي فرَّغ إحساسه ليشعر بالحاجة لهذين العوضين؟ أمن داخل الأسرة..؟ أو من ضغوط أقرانه..؟ أو من شعوره بالفقد العام في البيئة الصغيرة، أو الكبيرة التي أنتجته، وتتفاعل معه..؟ أو لضعف يلحق بتربيته الإيمانية..؟
هذه ليست الحالة الأولى التي يقبل فيها شاب على تصرف غير مسؤول عن نفسه، خارج نطاق الضابط النفسي.., الذي وراء تكوينه عدة مراحل، وجملة من الأفراد، وجهات من الجماعات، فالإحصاءات بلا شك كثيرة، وهي في ملفات الجهات المعنية.., ولا ينبغي طيها بمجرد انتهاء وقتها.. ثمة أمر أشد حاجة لإعادة النظر في طريقة احتواء الموقف.., كان مجدياً أن يُستدرج بذات المقابل التعويضي، «السيارة اللكزس، والفتاة الوهم «.., لينجو بالنزول من أعلى البرج,..
على الرغم أن أفكاراً أخرى ربما كانت أكثر منطقية.., وواقعية.. لا تعتمد على الإيهام، لتعويضه بالثقة..
لكن في ظني، ليست مكاتب الشرط مآلا، ولا الرجال ببزاتهم العسكرية في ميدان الحالة، من هم الجهة الآمنة لمواجهة نفسيات مثل هذه الحالات، إذ يبقى لهذا الزي الأمني مهابة تؤثر في نفوس ضعفت بمرض، أو عوامل نفسية، أو أسرية، أو اجتماعية، أو بيئية، أو تربوية، أو مالية، ممن فشلوا في تكوين قناعات, واعية بفوارق الحياة، واختلاف الأحياء، في نفوس أناس لم تبدأ بهذا الشاب محاولات انتحارهم، ولن تنتهي عنده.., إذ بوجود رجال الأمن والشرطة في المواجهة، تزداد هذه الحالات خوفاً وهلعاً وربما مرضاً.., عندما تهرب من جحيم فراغها، وهشاشتها، وخوفها، أو تمردها السالب، إلى هلعها من تصورها ما وراء رجل الأمن, من عقوبات وسجن و.. ما ليس في قدراتها النفسية أو الذهنية، ولا إدراكها في لحظة الموقف الحاد استيعابه.. «فإن ذبحْتَ فأرفق».. وإن أنقذتَ فافعل..
على الرغم من أهميتهم خلف الواجهة..
وعلى الرغم من أنهم هم الذين يحيلون الحالات لجهات الاختصاص فيها..
وهم الذين على أهبة الاستعداد لكل موقف..
سيسألونه، ما الذي أوصلك للأسلاك الشائكة في أعالي البرج..؟
فإن كان أبواه الفاعلين فعاقبوهما..
وإن كان معلموه فعاقبوهم..
وإن كانت فراغات في أنظمة يخضع لها في التعليم، أو التوجيه، أو الصحة، أو الثقافة، أو التربية،.. أو.. أو.. أو، فافتحوا مكاتبكم، وراجعوا أنظمتكم، وأعيدوا النظر في كل عامل مسبب لاهتراء أثواب الانضباط النفسي والوعي الذهني، والكوابح الذاتية، والإيمانية ,.. والأمن الوجداني, والقيم الفاعلة، والسلام الداخلي، والإيجاب مع المحيط، والتكافؤ في الفرص، والعدالة في المثوبات والعقوبات,..
وإن كان نتيجة تسيب في التنشئة، وإغداقاً غير مسؤول.. ورفاهاً في غير كوابح، فأعيدوا النظر في صياغات ملزمة لأساليب التوعية والتوجيه, لكل مسؤول عن عناصر تنمو بين يديه، مسؤول عنها في الدنيا والآخرة...
شاب الوجه الذي كتبت (الجزيرة) عن محاولة انتحاره أمس.., بالتأكيد قد عرف أن السيارة «اللكزس» العوض عن حياته، التي شاهدها تحت الأعمدة لن تكون له، فحاجته باقية، وأن الفتاة التي أرادها، هي رجل وهمي..,
هذا الفتى، له مطالبه، وغرائزه, وحاجاته, وآماله... لذا ليس له إلا أن تتلقاه مصحات ليس بالضرورة لتطبيب نفسه، وجسمه، بل لتطبيب كل عامل كان وراء حادثة أمس، عند أبراج الاتصالات.., اتقاء لمثيلاتها..
وهو مؤشر لخلل في الجهات الأسرية والتعليمية والتربوية..
فإن كان كذلك، فالله الله يا ذوي الأمانة في فلذاتكم... في أبنائكم، في عناصر الأجيال التي ستحمل الرسالة عنكم.. رسالة الحياة التي تركضون من أجل سلامها، وفضيلتها، واستقرارها.