مثلي مثلكم، عندي عمالة منزلية ليس لظروف قاهرة مثل العجز أو المرض حمانا الله وإياكم، وإنما لأن المفاهيم المعيشية السائدة والسياق الاجتماعي العام لا يجعلان الاستغناء عنها مريحاً ومقبولاً. العيش خارج السياق العام صعب جداً ومجلبة للنكد، والموت مع الجماعة رحمة كما يقول المثل.
أضيف أيضاً أن بيني وبين عمالتي المنزلية ود وتفاهم بدليل أنهما (وهما سائق وزوجته) مستمران في العمل عندي منذ أكثر من خمسة عشر عاماً متواصلة. هما يعرفان أن العائلة تقدرهما وتحترمهما، والعائلة تدرك أنهما ممتنان لذلك، وحقوق التعاقد محفوظة للطرفين. إذاً ليس بيني وبين العمالة الأجنبية حزازات ولا عنصريات، لكنه الخوف من المستقبل.
إنني أدعو الله من كل قلبي وعن قناعة كاملة أن يرزق الله العمالة الأجنبية في أوطانها ما يغنيها عنّا وعن بلادنا، وأن يرزقنا الإرادة الحكومية والشعبية لإجبارنا وأطرنا أطراً على تدبير شؤون أنفسنا بأنفسنا.
العمالة الأجنبية والحصول عليها بالمواصفات المطبقة حالياً تكلفنا عشرات البلايين بالعملة الصعبة سنوياً. أهم من ذلك أنها تكلفنا استهلاك عشرة ملايين شخص إضافي من المياه التي تكاد لا تكفي لسكان البلد الأصليين. أهم من هذا وذاك أنها تكلفنا عشرات السنين من استمرار الجهل التقني التطبيقي في الخدمات الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية والمعمارية إلى آخر الخدمات اليومية التي نتكل فيها على العمالة المستوردة ونصم آذاننا عن النظر بعين العقل والاستماع لتأنيب الضمير.
هل من الصعب أن تقوم الحكومة، وهي - بعد الله - القادر الوحيد على حسم الأمور بإغلاق صمامات استيراد العمالة تدريجياً (خطة عشرية مثلاً) وفتح صمامات الاستفادة من الطاقة البشرية الكامنة والمعطلة في أبناء وبنات الوطن؟. نحن نعرف جميعاً أنه ما لم تغلق تلك الصمامات الخارجية بالتدريج وبحكمة وتفتح الصمامات المحلية سوف يظل الكلام عن البطالة والفقر وعجز الإسكان واستحالة الزواج في الوقت المناسب مجرد اجترار عبثي، بينما المشكلات الاقتصادية والأخلاقية والجنائية تزداد وتتراكم.
سطحياً يبدو موضوع الاعتماد على العمالة المستوردة والاستمرار فيه كأنه تدليع للمواطن، لكنه في العمق والنهاية تضييع للمستقبل. إهدار الأموال والمياه والمستقبل العملي التطبيقي مجرد شواهد مادية مرصودة لظاهرة استيراد العمالة، لكن هناك أمور أخرى لا يجوز استمرارها. الجهات المستفيدة من إبقاء صمام العمالة المستوردة مفتوحاً معروفة وشبعنا من ترديد الكلام والمبررات حول ذلك.. لكن إلى متى؟. من الشواهد غير المنظورة على فساد الاستمرار في استيراد العمالة ما يلي:
1- ترهل المرأة السعودية في بيتها وتنازلها عن مسؤولياتها في الإشراف الغذائي والتربوي وصحة البيئة المنزلية ومتابعة التطورات المرحلة الجنسية لبناتها وأولادها وتسليم هذه المسؤوليات إلى العمالة المنزلية. مثل هذه المرأة، وهي الأغلبية، لا تبلغ سن الأربعين إلا وهي كائن مريض لا يستطيع صعود الدرج ولا نقل كرسي من مكانه ولا حتى كي قطعتي ملابس في وقفة واحدة. الخسائر المالية المتربة على أمراض هذا النموذج النسائي تحصيل حاصل يضاف إلى الخسائر المادية المذكورة سابقاً
2- انسحاب الدولة من مسؤولياتها في نقل التلاميذ والطلبة مقابل أجور بطريقة منظمة ومأمونة، وهذه من مسؤوليات الدولة في أكثر دول العالم. مع الانفجار العظيم لفقاعة الطفرة الاستهلاكية تهرب الآباء أيضاً عن تلك المسؤولية. ترتب على هذا التهرب المزدوج ترك المهمة للعمالة الأجنبية في نقل الأبناء والبنات مع ما يترتب على ذلك من عواقب.
3- استمرار تهرب المستثمر المحلي والأجنبي في القطاع الخاص من مسؤولياته في التنمية البشرية المادية والتعليمية والتدريبية. يقابل ذلك تراكم الأرباح واحتكار سوق العمل للعنصر الأجنبي لأنه قابل أكثر للتطويع والاسترقاق. هذا العنصر الأجنبي العامل تحت هذه المواصفات يعرف الممارسة السيئة ضده في سوق العمل، لكنه يصبر حتى يحصل بالممارسة الفوضوية الميدانية على تأهيل جيد ثم يغادر البلاد غير آسف.
ومع كل ذلك فقد نسيت بالتأكيد سلبيات أخرى، لكن ما ذكرته أكثر من كاف على ما أعتقد. أظنه آن الأوان لانتهاء فترة التدليع ومباشرة العلاج بصرف النظر عما يسببه من صراخ وآلام.