منذ زمن بعيد أوكلت مهمة التسوق وتأمين احتياجات البيت إلى ولدي الأكبر (علي) الذي لا أقول إنه لا يتذمَّر من هذا الأمر، بل يتلذذ بتنفيذه، لكني في يوم الخميس الفائت 10 محرم 1432هـ الموافق 16 ديسمبر - كانون الأول 2010م وجدتني أستجيب لنداء داخلي يدفعني باتجاه سوق الخضار بعتيقة، كأني اشتقت لمداعبة الباعة! أو ربما لأشهد الواقع المؤلم للصبية الذين تركوا دراستهم.. والله أعلم إذا كانوا كلهم مضطرين إلى ذلك أم لا؟.. لمزاولة الأعمال المختلفة في السوق.. وإتقان تبادل الشتائم والسباب بين ثلة منهم بأسوأ المفردات وأقساها.. وتبادل الضربات.. تارة بالأيدي.. وأخرى بالنعال (أكرمك الله قارئي)، لقد شاهدت ذلك بعيني وسمعته بأذني! أو ربما استدعتني حالة غلاء المعيشة.. كي ألتفت إلى ضرورة زيادة ميزانية مصروف البيت لتوازي الانطلاقات المهولة في قفزات الأسعار التي أقرأ بعض أخبارها عبر الصحافة! أو ربما لأجد نفسي أمام مفارقة عجيبة مع رنات الجوال!
وصلت السوق بعد أذان الظهر بقليل، دخلت جامع عتيقة، وما إن صليت السنَّة حتى بدأت أسمع أنفاس المؤذن.. وهو يقترب من سماعة مكبر الصوت (المايكروفون) استعداداً للإقامة، ولكنه تعمَّد إحداث لحظة صمت طويلة، ثم أسعدني وأسعد الكثيرين حتماً بقوله: أُذكِّر جميع المصلين.. هداني الله وإياهم إلى العمل الصالح أن يقفلوا الهاتف الجوال، قلت في نفسي: الحمد لله أني اعتدت إقفال الجوال قبل الدخول إلى المسجد.
المهم، أُقيمت الصلاة، وكبّر الإمام، فعمّ الصمت والخشوع، ولكن للحظة سريعة جداً، إذ اتضح أن تذكير المؤذن لم يجد آذاناً صاغية، فهذه رنة اتصال بنغماتها المتنوعة، وتلك رنة رسالة هاتفية، وثالثة رنة منبه، ورابعة عبارة عن منبه بصوت مهيب يرفع الأذان، سبحان الله كأن رنات الجوال تتنادى، أو كأنها في سباق أقوى من سباقات برامج الفضائيات من أمثال: «سوبر ستار» و»ستار أكاديمي» و»الوادي» و»so you think you can dance».. وغيرها من البرامج المسلية جداً والمفيدة جداً.. كيف لا وقد عرّفتنا على ثقافات غيرنا.. وانتقلت بنا من حالة الجمود إلى الحركة.. ومن حالة الستر إلى حرية التفسخ!
المهم، لست أدري كيف انتهت الصلاة.. وأستغفر الله لنفسي، سلَّم الإمام ونبه المصلين إلى الصلاة على الأموات، فتحت الستارة عن الأموات رحمنا الله وإياهم، ووقف الإمام وكبَّر التكبيرة الأولى وكبَّر المصلون من بعده، وإذا بهاتف الجوال للمسلم الذي بجانبي يصدح بأغنية «أنا دنيا من الوله»! وسبحان الله بعد التكبيرة الثانية صدح جوال آخر بأغنية «لا لا تعتذر»، طبعاً لا حاجة لذكر اسم المغني لكل أغنية.. فما أشد ثقافتنا في هذا الاتجاه!
حينئذٍ، وأستغفر الله لنفسي، خرجت بذهني إلى مباراة في التنس الأرضي جرت أحداثها في سويسرا، وكانت بين المايسترو السويسري روجر فيدرر والماثادور الإسباني رافائيل نادال كما يسميهما المذيع الداخلي، وهما معروفان بالطبع للمثقفين رياضياً، واعذرني قارئي.. فقد حضرت هذه المباراة من بدايتها إلى نهايتها، لقد استمرت المباراة ما يقارب الثلاث ساعات دون توقف إلا بين الأشواط، ولكن في الوقت الأخير توقف اللعب فجأة، واتجهت عدسات الكاميرا إلى اللاعبين.. ثم إلى الحكم.. ثم إلى حيث تتجه عيونهم إلى الجمهور، تساءلت عن السبب، ولم أنتظر كثيراً حتى أبرزت الكاميرا فتاة اخترقت النظام وأخّلت بالقوانين إذ رنّ هاتفها الجوال، فأزعج الرنين اللاعبين كما لو أن صاعقة نزلت من السماء!
قلت: يا إلهي، مباراة تستمر لما يقارب الثلاث ساعات لم يرن خلالها الجوال من بين كل هذه الحشود إلا مرة واحدة، بينما الصلاة التي لا تزيد عن عشر إلى اثنتي عشرة دقيقة كانت رنات الجوال تقيم عرساً صاخباً أفسد على المصلين صلاتهم وخشوعهم! لا حول ولا قوة إلا بالله.
لم تنته أحداث هذا الخميس عند هذا الأمر، بل بالأمس اقترب مني ولدي وهمس إليّ قائلاً: يا أبي جاءتك مخالفة مرورية ثانية من ساهر، وبياناتها تقول إنك ارتكبتها قبيل ظهر يوم الخميس!.. واستطرد يسأل: هل أسددها؟ قلت له: بني لا أذكر أني تجاوزت السرعة المسموح بها منذ تلك المخالفة! قال: هل تود الاعتراض؟ قلت: لا.. لا.. بني، بل أسددها.. ثم ذهبت أتمنى لو أن ما يشابه ساهر في الطرقات يُوجد في المساجد وأقترح له اسم: خاشع!.. وقتئذٍ حتماً ستكون هنالك نتيجة أخرى!
كاتب فلسطيني - الرياض
aaajoudeh@hotmail.com