أطمئن كثيراً على حدائق روحي، وأحمد الله أنني ما زلتُ على صلح مع النفس، أستطيع أن أجوب فضاءات وجداني، أنتقل من مدار إلى آخر، أداعب كوكباً هنا وأوقظ نجمة غافية هناك؛ لأرسم على أديم وجهها لوحة عفوية الموهبة بدائية الحس عذبة الأبعاد، أمارس كامل حقوق بسطاء الناس: أبكي، أحلم، أضحك، أصرخ أتأوَّه، أغني دون أن أراقب مَن يرصد أنفاسي ويسيِّج نبضاتي. يحدث كل هذا عندما تداهمني حالة خدر أعرفها جيداً، مع أنني أجهل عندما أدخل فيها كل ما حدث بين بابي الدخول والخروج، هي حالة بين الوعي واللاوعي، هي الأقرب إلى الجنون من العقل، وربما هي الجنون بعينه.
هذا اليوم لن أتحدث عن خفاياي وغرف نفسي الداخلية كما يبدو من الوهلة الأولى، فالحديث عن ذلك يحتاج إلى أكثر من هذه العجالة، فما أردتُ الحديث عنه حالات الخدر والغيبوبة التي تداهم الشاعر الحقيقي وتفضح أسراره وتقوِّض كتمانه وتحفُّظه، الشاعر الذي ليس في جدول أعماله أنه في الساعة كذا من مساء اليوم أو الغد سيكتب قصيدة، فالقصيدة التي تعطي لشاعرها موعداً مسبقاً هي إما حرفة شاعر أو زيف مشاعر، وهي أيضاً ليست القصيدة التي يبقيها كاتبها - ولا أقول شاعرها - ربما لعدة شهور في جيبه أو بين أوراقه، وكلما سنحت له فرصة عاد إليها وأجرى عليها ما يريد من تعديل وزيادة وتشذيب وتلميع و(قص ولصق).
فالحديث هنا تستحقه قصيدة تكسر حاجز الصمت، و(تشطب) بكل جرأة جدول مواعيد شاعرها، تقذف بغفوة عابرة تداعب أجفانه من نافذتها، تستحوذ على كل ما في كله، تجرفه إلى أوديتها السحيقة، وربما تطير به إلى عوالمها المذهلة، هي الهاربة منه والهاربة من الزمن الكلي إليه.
وقفة
آه.. يا طيب القصيدة كل ما عرتني
لبستني ثوب ستر وطهرت وجداني
وكشفت لي عن خفايا النفس لا زارتني
لين وافق ما بروحي ما يقول لساني
وباحت بسري وكل علومها سرتني
وشرعت باب الحشا واستدرجت كتماني
وبالثمين من الجنون من العقل برتني
لين صار الغيث حبري والفضا ميداني
من يقول ان القصيدة لا لفت عرتني
كنت عاري لين لمس احساسها وجداني