بعد أيام قليلة يفارقنا عام كان واحداً من أكثر أيام العرب بؤساً وتعاسة، ويحل عام جديد نتمنى أن يكون عام خير وبركة على أمتنا، في كافة أقطارها وأمصارها.
ولأنني لا أعتبر التحول على عام آخر مناسبة للمقت، ولا أريد إصابة القراء بالاكتئاب في مناسبة كهذه تواضع البشر منذ قديم الزمان
على اعتبارها رمزاً للأمل والانبعاث والتجدد، فإنني لن أسرد ما حمله العام الراحل معه من مصائب، ولن أتوقف عند واقع العرب الحالي، الذي يبعث الهم في القلب والحزن في النفس، وسأكتب عوضاً عن ذلك عن أمنيات أرجو ربي أن يعين العرب على تحقيقها في السنة الجديدة، التي يريدها الجميع عام يمن وتوفيق، لأنفسهم كأفراد، ولأحبائهم، ولأمة العرب الشقية، التي لم تعد تعرف من أين تتلقى الضربات وكيف ترد عن نفسها الأذى، ولم يبق جهة في العالم أو المنطقة إلا وطمعت فيها وتطاولت عليها و»استطوت حيطها»، كما يقال في اللسان الشعبي في بلاد الشام.
أول ما يتمناه المرء في العام الجديد هو بالضرورة وقف النزيف الداخلي الوطني، والقومي العربي العام، الطويل والمؤلم والمستمر، ورجحان الميل إلى تغليب مشتركات العرب على خلافاتهم، ومصالحهم العليا على حساباتهم الصغيرة، والشعور بالمسؤولية على السعي إلى سفاسف لا تغني ولا تسمن، عسى أن تتراجع الخلافات، وتتقلص التناقضات، وتتغاضى النفوس عن الصغائر، وتتذكر أننا ننتمي إلى منطقة ظهرت فيها جميع المفردات التي صنعت الحضارة البشرية على مر التاريخ، وأن هذه الأمة، التي يستخف بدورها اليوم القاصي والداني، كانت سباقة إلى الأديان والأبجدية والتفكير المجرد والأرقام والحساب والزراعة والصناعة والتجارة والدولة وتدجين الحيوان وبناء المدن وركوب البحر واختراع العجلة وصهر المعادن.. الخ، وأنها لا تستحق ما جرى ويجري لها منذ نيف وألف عام، فلا بد أن تبارح مأزقها الحالي، المزمن، بقدراتها الذاتية، وطاقات بناتها وأبنائها الموهوبين والمؤهلين لتعلم كل شيء، بعد وقف ما هي عليه من تمزق وتشتت وتأخر، واكتساب وعي مطابق للواقع: واقعها وواقع العالم من حولها، من الضروري لها أن تكتسبه إن كانت راغبة في اللحاق بركب التطور، وتأدية دور يتفق وتاريخها وقيمتها الحضارية ومكانتها من النهضة الكونية، التي قادتها طيلة نيف وخمسة قرون دون انقطاع.
وثاني ما يتمناه المرء في العام الجديد هو، بالقطع، سيادة عقلية عملية وحديثة في وطننا العربي، تعرف مكامن قوتنا ونقاط ضعفنا، فتعزز الأولى وتحررنا من الثانية، انطلاقاً من فكرة أثبت التاريخ الحديث أنها مفتاح أي تقدم، هي أن الإنسان كمواطن هو مفتاح أي تغيير أو تحسين، وأنه حامل وضامن نجاح أي مسعى في أي مجال: من السياسة إلى الاقتصاد إلى المجتمع فالثقافة فالأمن فالابتكار العلمي، ومؤهل عندنا أيضاً لفعل كل ما هو عظيم ونبيل، بحكم تجربته الحضارية التاريخية الطويلة، بما عرفته من تسامح وأريحية روحية، وبدوره الريادي خلال آلاف من الأعوام، مارس خلالها مختلف أنواع الإبداع الفكري واليدوي، وابتكر وجدد، ومن يذهب إلى أي مكان من ديارنا سيجد آثاره محفورة في الصخر أو ظاهرة على الرمال أو بارزة في الجبال والسهول، فهو باني الترع والسدود ومروض الأنهار وصاهر المعادن ومؤسس الدول ومبتكر الحروف والأرقام، وممارس التجارة والصناعة، وعارف اللغات (كان في دمشق قبل ثلاثة آلاف سنة صناع وتجار يعرفون لغتين أو أكثر من لغات المنطقة)، ومن يقرأ شهادات الفرنجة الذين أتوا منطقتنا غزاة، سيجد أنهم أصيبوا بصدمة حضارية مذهلة لما وجدوه فيها من طرق وسدود ومواصلات منظمة ومستشفيات ومدارس ومكتبات ودور عبادة وحرية فكر وقول وتقدم اقتصادي، وقبل هذا وذاك من أمن وازدهار، ومن المعلوم أن الأوروبيين، وكانوا أقرب إلى الهمجية منهم إلى الحضارة، بلغوا من الإعجاب بما رأوه حداً جعلهم يرتدون أزياء أجدادنا، ويفكرون على طريقتهم، ويقلدون أنماط عيشهم وهواياتهم، بل ويؤسسون جماعات فروسية تبنت قيمهم وانتشرت في أوروبا انتشار النار في الهشيم. فلنثق إذن بإنساننا، بمواطننا، بقدراته المبدعة التي لا حدود لها، إن تمكن من ترجمتها في الواقع تغير كل شيء نحو الأحسن، وبدأ خروجنا من احتجاز تاريخي مهلك يرجع جزء منه إلى غياب هذا الإنسان عن شؤونه، وإلى اعتبارها جاهلاً أو عديم الموهبة أو متأخراً، إلى آخر ما يقال عنه وهو منه براء، بينما نحن نراه بأم أعيننا وهو يبدع حين يوضع في شروط ملائمة، ويحقق في بلدان الاغتراب ما يحققه أبناؤها ويزيد، انطلاقاً من فطرة حضارية حية ومعدن ثمين لكنه مغطى بغبار التهميش، فإن زال لمع المعدن من جديد ونوّر ما حوله.
ثالث ما يتمناه محب قومه في العام الجديد هو وجود حاضنة عامة قادرة على إطلاق قدرات ومواهب وإمكانات الإنسان العربي، مواطننا الذي يحمّلونه في بلدان كثيرة المسؤولية عن مسائل كثيرة لا ناقة له فيها ولا جمل؛ حاضنة تكون منسجمة مع مجتمعاتها، ترى نفسها في ضوء الدور الحضاري الذي قامت منطقتنا وأمتنا بأعبائه، وحاجاتهما الحالية الملحة، على تفهم أنه سيكون لها مكانة عظيمة في نفوس مئات ملايين البشر من مسلمين وغير مسلمين، وأن لها مكاناً على مسرح التاريخ، حيث لا ولن يلعب أحد دورها بالنيابة عنها أو في غيابها، وأن بقية العالم بحاجة إليها مثلما هي بحاجة إليه وربما أكثر، وأنها تمتلك من الخبرات المدخرة والتجارب الغنية ما يتيح لها إخراجنا مما نحن فيه من عسر وضيق، بمعاونة المواطنين والتوافق معهم، فأزمتنا ليست عصية على الحل، مع أن الإحجام عن حلها يجعلها مستعصية أكثر فأكثر، لا تنفع فيها أنصاف حلول، خاصة إن كانت قائمة على إنكار الحاجة إلى بداية عربية جديدة.
أخيراً وليس آخراً، يتمنى محب أمته للعام الجديد أن يقلب الصفحة التي شوهت علاقاتنا مع دورنا التاريخي وطابع منطقتنا، وعلاقات بلداننا العربية بعضها مع بعض، وشعوبها مع حكوماتها، والعلاقات بين مكوناتها، وأن تنجح الحاضنة العامة، ممثلة قبل كل شيء في الدولة العربية، في احتلال مكان لنا تحت الشمس، يكون خاصاً بنا في عالم الدول والقوميات والشعوب ويكون مليئاً بنور المحبة والتراحم والعقل والتسامح والمشاركة، وبالرغبة في احتلال موقع متقدم داخل العالم، نعرّفه نحن ونتعرّف من خلاله، يعيدنا إلى الساحة الدولية، ساحة الحكومات والشعوب، التي لا بد من أن تستعيد احترامها لنا، وترى فينا أنداداً لها، لن يكون العالم بدونهم ما هو عليه بفضلهم، لأنهم أبناؤه الأصليون وبناته المجتهدون !.
كل عام والأمة العربية بخير، وكل عام وكل عربي ومسلم بخير. وكل عام ونحن وراء الحق والكرامة، وليكن العام القادم، بإذن الله ومشيئته، عام الخروج من العسر والدخول إلى اليسر، في فلسطين وكل أرض عربية !.