من يلتفت إلى السياسة يجد أنها فكر وعمل يتطلب قراءة التاريخ على اختلاف مراحله وبيئاته بعمق ووعي، وتحليل وتفسير وإدراك تام، والذي لا يعون ما حدث قبل أن يولدوا يحكم عليهم في عالم السياسة بالطفولة حتى الموت.
منذ القدم، والتاريخ يقدم للسياسيين سجلات كبيرة، ووثائق كثيرة، غنية بالمعلومات، زاخرة بالطرائف، والسياسي الحاذق، أو من حنكته التجارب يعرف كيف يتعامل معها في صياغة رؤاه، ورسم توجهاته، وتنظيم وتأسيس قواعد عامة في الملك، والرئاسة. والسياسة بلا تاريخ حافل، أو مجد مؤثل يتكأ عليه هو كنبات بلا جذور كما قيل، ومن هنا كانت الممارسة والمجالسة والمخالطة لمجالس صناع السياسة لها دور كبير ومؤثر في صياغة السلوك بدرجة موازية لما قد يتلقاه الإنسان من علوم ومعارف في هذا المسار والتخصص.
من المعروف أن المؤرخ المتابع للأحداث يقوم بدراسة الوثائق لاستجلاء طبيعة الأحداث الصعبة، بينما يأتي السياسي ليبحث مواقف النخب السياسية منها، وكيف انطلقوا من تلك المواقف، ومقدار النجاح الذي أصابوه، أو أخفقوا فيه.
والأنظمة التي تحكم كل دولة، أو جمهورية، أو مملكة لها ما يناسبها من موروثات التاريخ، وعلى هذا ليس من الضرورة أن تكون المشارب واحدة.
على ضوء هذه العلاقة الوطيدة نجد أن (شارل نوريه) كمؤرخ للسياسة، وأحد الفلاسفة الدارسين فكر المجتمعات، والتوجهات التي تحكمها، وبالتحديد للفكر الأوروبي الحديث يقول: ((أنا وحدي سأشيع البلبلة في عشرين جيل قادم، ولي وحدي ستدين لي الأجيال القادمة في بدء سعادتها اللامحدودة...))، وبالفعل كان له دور كبير هو وغيره من المفكرين في التاريخ في رسم السياسات التي تحكم أوروبا في عصرنا الحاضر، ومن المؤكد أن يأتي من يكتشف فيما بعد الهفوات والمزالق عند بعضهم والتي حمّلت الشعوب الشيء الكثير. وتأسيسا على ذلك أصبح التاريخ في أوروبا، وبالذات في القرن التاسع عشر للميلاد هو هدف المعرفة الكبير والمنشود عند الطبقات المثقفة التي شغفها هذا الطرح، وعلى الأخص التاريخ السياسي.
التاريخ بلاشك كشف عن حقائق عميقة للمتأمل، تتعلق مباشرة بالإنسان وتربيته، والكون بنظامه الأزلي، والحياة بدورتها، وتبعا لذلك عدّ التاريخ عند البعض مدرسة للتدريب على السياسة لجأ إليه الأكاديميون في مناهجهم التعليمية، ولجأت إليه الطبقة الواعية من السياسيين في تأهيل وتربية أبنائهم، حتى ساد الاعتقاد عند البعض أن الموضوع الرئيسي للتاريخ يجب أن تكون السياسة هي مداره، ومن هنا عرّف بعضهم التاريخ بأنه (السياسة في العصور الماضية)، ومن الطبيعي ألا يجد هذا التوجه قبولا عند بعض الأطياف التي ترى في التاريخ معرضا للقيم والمبادئ العليا، رغم أن الواقع يقول: إن النظام السياسي وحده هو الذي يطبع الحقبات التاريخية والأمم بطابع مميز. وعلى أي حال هناك حقيقة يجب ألا نغفلها في مثل هذا الطرح تتعلق بخطورة الفكر السياسي المستورد حتى ولو بني على التاريخ، فلكل بيئة من البيئات طبيعتها وتاريخها الذي يجب أن يلجأ إلى تفاصيله، وخصوصياته، ودقائقه بعناية، حتى ولو آمنا كل الإيمان بأهمية التلاقح الفكري بين الحضارات.