أذكر عندما كنت في وثوب الدهشة، على مقاعد الدراسة المتوسطة، والقلم يركض بي، وأتمسك به، والمضمار طويل، تتعثر بي الكلمات، وتطول بي جملها، وتصل تدك الأبواب، مرحلة، يا لهم من أناس يُبهجون، ويبتهجون.., والطُّلعة حماس..
أبي كان يدربنا على معرفة تفاصيل المدينة، كلما قلنا الوطن، أخذنا يمر بنا منعطفات شوارعها، ومخابئ دروبها، وكانت تهزني كلمة «العبيد» ملحقة خبرا بمبتدئها «حلة»، لجزء من المدينة عامر بالنفوس، حيوي بالحركة، فألحُّ عليه أبي: لم «حلة العبيد»، وأنت قد قلت لي منذ النبتة الأولى: (كلنا عبيد لله)..وحده الله ربنا،..و هو يذهب في سرد تفاصيل الحياة الاجتماعية، وأدوار الأفراد فيها، وتأريخ الرق في الإسلام،, وقد كان الملك فيصل رحمه الله قد منع المتاجرة بالإنسان، وكلنا أحرار، لا عبيد للعبيد، وإنما هو اسم لحق، وبقي للمكان..لا غير.. لكنني أتفكر، يومها ذهبت فكتبت: لماذا لا يتغير اسمها فتصبح (حلة الأحرار).. نشر المقال، واطمأنت نفسي.., ولم أكن يومها أتخيل ردة سريعة، إذ مرت أيام قليلة, ما لبث أن استقر بين يدي خطاب موقع باسم أمين عام مدينة الرياض الشيخ عبدالله النعيم حفظه الله، بتقدير الفكرة، وبأنه سيتدبر تنفيذها، ثم هي فترة لم تطل تحولت فيها صفة الحلة لما اقترحت..,..وبشرني بذلك الأمين النعيم ذاته..
تذكرت هذا، وشوارع العاصمة حين شكلت لها لجنة التسمية، كانت تراودني فكرة، ولا زالت تعج بها نفسي، فهذه الأسماء العديدة الكثيرة، ذات العلاقة بتأريخ المنطقة، أو العلماء العرب، أو رجال التأريخ الإسلامي، أو المكرمين في فترات مفصلية، ونحوه من أسماء عواصم عربية، وميادين ووقائع ذات سمة تأريخية، أو وطنية، هل كل من يقرأ الاسم على شارعه، أو عند عبوره بالميادين الكبيرة، والشوارع الفسيحة والضيقة منافذ المدينة له خبرة بها..؟ أوليس من موجبات الثقافة العامة أن يكون الساكن في المدن على معرفة تامة بها..؟ بكل الأسماء التي تعتلي لوحة الممر الذي يعبره..كبر أو صغر.. حديث التاريخ أو قديمه..؟ طالما أن ما تقدمه المدارس من الخبرات العامة ليست تغني عن ذلك..
إذن هل لو اقترحنا التعريف بها, يكون التجاوب سريعا كما حدث قبل عقود أربعة.. في شأن تحرر الحلة من وسمها..؟ فثقافة الجيل وهمية بنسبة عالية، عن وقائع حديثة، وشخوص لا يزالون يعيشون من مشاهير الوطن الصغير بلادنا، فما بال بالوطن الأكبر الذي اختيرت من أسماء قادته ومفكريه وعلمائه، الأسماء الكثيرة التي تضيء معابر دروبنا..؟
في المتاحف، وحدائق الحيوان هناك لوحات مصغرة جدا بالتعريف بمحتوياتها، وربما لن يجدي مثلها عند كل اسم في ممر ومعبر وشارع وطريق، لأن الراجل ليس كالراكب، ففرصة الأول للقراءة واردة، لكن الآخر سيحتاج ما يعطل حركة السير إن هو همَّ بقراءة ما يتعرف عنه الشخصية التي يحملها المعبر, غير أن هناك مقترحا وهو أن تصدر أمانات المدن كتيبات تعريفية مع خارطة المدينة، تتضمن نبذة عن كل اسم اختير لأن يكون معرفا للموقع، والمسار.. أو نحو هذا المقترح آخر يرونه..
فإن تحقق هذا المقترح، فإنه جزء مشرق في خدمات تثقيفية من جهة للمواطن، وأخرى للسائح، والزائر.