كنت محظوظاً -ولله الحمد والشكر- في عملي بالتعليم أكثر من عشرين سنة، فقد قضيتها داخل مدينة الرياض في المرحلة المتوسطة، ثم الثانوية. وقد كنت محظوظاً أيضاً في أول تعيين عندما اصطحبني زميل قدم المملكة قبلي إلى موجه اللغة العربية الذي كان يتولى توجيه المعلمين المختصين بمادته إلى مدارسهم، قبل أن يسحب تعيين المعلمين من قسم التوجيه ويسند إلى شؤون المعلمين.
أذكر تلك اللحظة جيداً حتى الآن؛ فقد سأل الموجه الفاضل زميلي بحكم أسبقيته ومعرفته بالرياض: أين تريد أن أعين زميلك؟ فقال: في حي النسيم، لأن فيه سوريين كثيرين!! فقال الموجه: لا، عندي مكان أفضل لزميلك، هو حي عرقة، مدرستها متوسطة، وطلاب المدرسة قليلون، ويقع في منطقة جميلة، فيها بساتين ومياه، يخرج الناس إليها للتنزه أيام الخميس والجمعة.
وقد نصح -جزاه الله خيراً-، فما زلت أسكن في عرقة رغم مغادرتي العمل في التعليم. إذ وجدت فيها النسيم الحقيقي والراحة النفسية؛ من لطافة هوائها، وحسن معاملة أهلها الذين صاروا لي أهلاً بعد أهلي الذين لم أعد التقي بهم في السنة إلا شهراً أو شهرين!! في السنوات التالية تحركت في رقعة صغيرة أشبه برقعة الشطرنج تحرك الجندي بخطوة واحدة حسب الحاجة. وانتهى عملي في التعليم بسنة واحدة خارج الرياض، كانت تجربة جديدة من نواح متعددة:
1- المسافة التي كنا نقطعها يومياً، وتبلغ مئتين وأربعين كيلومتراً ذهاباً وإياباً.
2- كانت المدرسة في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة.
3- كان عدد الطلاب قليلاً في الفصول الدراسية يتراوح من ثلاثة إلى خمسة عشر طالباً بحد أعلى.
وقد تغلبنا على مشكلة المسافة بالاتفاق على الأمور الآتية:
1- السفر بسيارة واحدة أسبوعياً، بحيث يأتي الدور مرة واحدة كل ثلاثة أسابيع، وفي هذا توفير للجهد والمال والحلال!!
2- تحديد نقطة التجمع والانطلاق، وتحديد مدة خمس دقائق فقط للانتظار.
3- الانطلاق بعد صلاة الفجر مباشرة، وقد حققت لنا هذه الأمور انتظاماً في الوصول إلى المدرسة قبل بدء الطابور الصباحي أيام السنة الدراسية كلها، فكنا نجلس أحياناً أمام المدرسة حتى يأتي المدير أو الفراش ليفتح لنا الباب، وكان ذلك موضع تقدير كبير من المدير الذي قال لنا مرة: يا إخوة! أنتم والله تحرجوننا إذ تصلون من الرياض قبلنا. وحقق لنا ذلك استقراراً نفسياً، فقد كنا نسير بسرعة لا تزيد عن مئة وعشرين كيلومتراً في أي حال من الأحوال لأن لدينا الوقت الكافي. ومع ذلك حدثت مشكلة خطيرة أكثر من مرة تغلبنا عليها بوجودنا الجماعي في سيارة واحدة، فقد تكرر مع أكثر من واحد منا أن غلبه النعاس وهو يقود السيارة في أسبوعه، واستحال عليه الاستمرار في القيادة، فيسلم السيارة إلى زميل آخر فيتابع السير، وهي مشكلة كان من المتوقع أن تنتهي بحادثة مروعة كما يحدث في أغلب الأحيان عند اجتماع السرعة والنعاس، وهي في رأيي سبب أكثر الحوادث التي تقع للمعلمين والمعلمات سواء كنَّ مع محارمهن أو في وسائط نقل الشركات المتخصصة.
فالسائقون الذين يسيرون في الصباح المبكر مسافات طويلة يقعون تحت تأثير هذين الأمرين: السرعة والنعاس وتنتج من ذلك هذه الكوارث التي كثر الشاكون منها والباكون، وأظن أن أكثر ما تقع من هذه الحوادث صباحية، وليست مسائية حال العودة من المدرسة.
وكانت معنا في القرية نفسها معلمة تحضر من الرياض مع السائق بمفردها، وتسبقنا سيارتها في الذهاب والإياب، ونأسى لحالها أكثر مما كنا فيه من المعاناة والمخاطرة اليومية.
وهذه القضية المشكلة ليس لها حل، لأن حاجة القرى والمراكز النائية لا تنتهي، وتعيين المعلمين والمعلمات فيها سيتجدد، والمطالبات الموجهة لوزارة التربية والتعليم بتحقيق رغبات المعلمين والمعلمات في النقل إلى أماكن إقامة ذويهم حل لمشكلة أناس، وبدء مشكلة أناس آخرين. وقد يكون أحد الحلول المقبولة إلى حد ما توفير سكن في مكان العمل بطريقة فردية أو جماعية، من قبل المعلمين والمعلمات أنفسهم، أو من قبل الوزارة، ويمكن لمديري المدارس ومديراتها الإسهام في إيجاد الحل بالمساعدة في توفير السكن، وتسهم الوزارة بدفع بدل سكن لهم مباشرة، أو تسديد إيجار السكن للمؤجر. وهذا الأمر سيقلل المعاناة من العمل في المناطق النائية إلى حد كبير، وفيه تعويض وترغيب لهم.
أقول هذا من واقع التجربة والمعاناة ليس في (سنة.. خارج الرياض) فحسب، بل من المعاناة التي عشتها قبل المجيء إلى المملكة حين عملت في مدن وقرى بعيدة وقريبة، وكان الحل الأمثل هو الإقامة الأسبوعية في مكان العمل قريباً من المدرسة، وكنا نعود إلى الأهل يومي الخميس والجمعة. وبغير هذا الحل سيبقى الطرفان في قلق دائم؛ المعلمون والمعلمات من جانب، والطلاب والطالبات من جانب آخر.
ومشكلة خروج المعلمات إلى القرى والبلدات البعيدة قائمة ومستعصية على الحل في كل مكان ليس بسبب الحوادث الواقعة والمتوقعة فحسب، بل من ناحية عدم الالتزام بالدوام تأخراً في الصباح، وتسبيقاً في الانصراف، وأعرف أكثر من زميل مدير مدرسة ترك الإدارة بسببهن، فلا هو قادر على إلزامهن بالدوام، ولا هو قادر على مواجهتهن بالشدة كما يفعل مع زملائه المعلمين، ولا هن قادرات على التكيف مع أوضاع القرى والبلدات النائية. فالمسألة أوسع من قضية النقل من مكان إلى مكان، ولا يمكن لوزارة التربية ولا المواصلات حلها بالشكل الذي يرضي الجميع في المملكة، ولا في غير المملكة.
وفي الختام ينبغي النظر إلى شرط العمل في المناطق النائية بعين مصلحة الوطن في أي وطن، وعدم إخضاعه لرغبة الفرد في مصلحته الذاتية، وهو أمر مطبق في كل البلاد العربية!.
2- أما كون المدرسة من مرحلتين ابتدائية ومتوسطة فهو الآخر مشكلة، لأن التفاوت العمري بين الصف الأول الابتدائي والصف الثالث المتوسط يعد كبيراً لدرجة يصعب معها تطبيق أساليب تربية، وإجراءات تعامل واحدة مع الأصغر والأكبر.
ولكن الذي هوّن من أمرها هو قلة عدد الطلاب، وتقاربهم البيئي والاجتماعي، وانتماؤهم إلى أسر من نسيج واحد، فقد كانت البيئة بدوية، وكان بعض التلاميذ يحضرون أحياناً من دون نعال، وقد أسهمت مرة في إيصال أخوين إلى خيمة الأسرة التي يقيمون بها في البرية، حيث يعمل أبوهما راعياً. وكان هذا الوضع يتجلى أيضاً في قلة العناية بالنظافة المعتادة لأجسام التلاميذ وثيابهم، فكنت أقول للتلميذ بمفرده بعيداً عن زملائه أن يطلب من والدته تهيئة ما يلزم لنظافة جسمه وثوبه، فيأتي في اليوم التالي بصورة أفضل بشكل ملحوظ، فيسر هو ويسر زملاؤه من وضعه.
3- قلة عدد الطلاب في غرفة الصف خاصة، وفي المدرسة عامة؛ تشكل حالة استثنائية في معظم الأحيان، وهي ظاهرة إن وجدت في المملكة بسبب توفير الدولة معلمين لكل صف بشكل مستقل، فهي لا تتوافر في الدول العربية الأخرى بتاتاً، فتقوم إدارة المدرسة بدمج صفين في غرفة واحدة، وتقل المدة الزمنية للدرس إلى النصف، وأنا شخصياً تعلمت المرحلة الابتدائية من الأول إلى الثالث على يد معلم وحيد في غرفة صف واحدة، أما المرحلة من الرابع إلى السادس فتعلمت في غرفة تضم صفين، فكانت المدرسة من الأول إلى السادس يقوم عليها ثلاثة معلمين. والخوض في الحديث عن أساليب التعليم لمثل هذه الحالات يحتاج إلى مقال مستقل طويل، ولكن أود القول إن ما كان يسمى إلى عهد قريب (دار المعلمين، ودار المعلمات) في سورية كانت تخرِّج طلابها وطالباتها وهم مؤهلون للقيام بهذه الوظيفة الصعبة بأفضل الطرق الممكنة، وما زلت وزملائي نذكر أولئك المعلمين الذين تعلمنا على أيديهم.
أما في مدرستي هذه التي أتحدث عنها (سنة.. خارج الرياض) فقد وجدت وضعاً عجيباً، بعض الزملاء ينتهزون الفرصة لينصرفوا مبكرين قبل انتهاء وقت حصصهم لأنهم أعطوا الطلاب الدرس..!
وعندما يغيب طالب أو اثنان ينتهز معلم الصف الفرصة ليجلس في غرفة الاستراحة أو ينام، بحجة أنه إذا أعطى الدرس لطالب واحد فإنه يضطر إلى إعادته لزميليه الغائبين، فيجلس هذا الطالب المسكين مسنداً ظهره إلى جدار سور المدرسة ينتظر الفرج!! مرة دق أحد هؤلاء المعلمين باب الصف، ومعه طالب واحد، وطلب مني أن أضمه إلى طلابي الذين هم من صف آخر! ولما سألته عن معلمه: أين هو؟ قال لي: إنها حصته هو، ولكن لا يوجد غيره، فكيف يعطيه الدرس؟! فقلت له: هل استأذنت من المدير وأخبرته بهذا؟ فدهش وقال: وأنت هل تخاف منه أو من الوزير لإدخال هذا الطالب مع طلابك؟! قلت له: هذا مخالف للنظام، وإذا كنت لا تخاف فأرسله إلى الملعب، لماذا جئت به تخبئه بين طلابي؟! يا رجل: اذهب وراجع له دروسه السابقة، وعلمه الإملاء، وراجع محفوظاته!! فولّى وجهه غاضباً ولم يعقب، وبقي حتى نهاية العام لا يكلمني!!
إن قلة عدد الطلاب في الصف فرصة لا تتكرر مع المعلم كي يرفع من مستوى طلابه علمياً كمّاً وكيفاً. فقد كنت أقسِّم السبورة ثلاثة أعمدة، وأخرج كامل طلاب الصف وهم ثلاثة فينفذون التدريبات التطبيقية كلها كتابة على السبورة، يعودون فينقلونها إلى دفاترهم، ثم يعودون فيقرؤونها من السبورة ومن الدفتر. وكنت أحس بالراحة والمتعة معاً عندما أرى دفاترهم قد امتلأت بالكتابة بخط أيديهم..!
كان وضع المدرسة أشبه بالفصول الدراسية الخصوصية، لكن انعدام الرغبة أو الإخلاص في العمل من قبل بعض المعلمين كان يضيع الفائدة المرجوة من ذلك بشكل مأساوي..، والله المستعان.