حينما أشيد بالقرآن الكريم في هذا المقال على أنه منهج حياة ونبراس طريق فإن أغلب الناس يعتقدون أن ما بين دفتي هذا المصحف الشريف أنها أشياء بواسطتها ندلف إلى جنان الخلد ليس إلا ولا يمكنني أن أدعم هذا القول بل أقول إن بعض أمة الإسلام وغيرهم من الأمم يعتقدون ذلك.. ولكني واثق كل الثقة أن الكتاب الذي بين أيدينا أقصد القرآن الكريم والكتب التي سبقته كالتوراة والإنجيل لاسيما السالمة من التحريف فإنها كتب تحمل مضامين فكرية على مختلف الصعد.
فالتوراة على سبيل المثال أثبت الله أنها هدى ونور قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} (44) سورة المائدة، وإن الإنجيل هو الآخر احتوى الهدى والنور قال الله تعالى في وحيه الطاهر: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} (46) سورة المائدة. ولكن لما كانت الرسل لا بد أن تختتم والكتب هي الأخرى لا بد أن تختتم فأتى الله تعالى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن الكريم الذي هو الفيصل لجميع الأديان السماوية.. فكانت الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل في حالة ترقٍ وسموٍ إلى أن جاء القرآن الكريم فهيمن عليها هيمنة تنوع لا هيمنة تضاد وتصادم.. وإذا ما أتينا لنتلمس العلة من وراء إنزال هذه الكتب التي تختلف مع بعضها البعض اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد لوجدنا العلة ماثلة أمام أعيننا.. فبعض الناس مثلاً يعجبه التشديد والمشقة فنزل لهم كتاباً فيه بغيتهم وهم اليهود وهناك بعض الناس يتوق لهم رفع الحرج والتيسير المفرط كالنصارى فأنزل الله لهم الإنجيل التي هذه هي تعاليمه.. ثم أنزل الله القرآن الكريم الذي هو وسط بين هذين النقيضين ليعلم البشرية أن التوسط في الأمور هو الطريق القويم قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (143) سورة البقرة.. إذا نفهم من هذا أو ذاك أن الكتب السماوية كانت في حالة ترقٍ وسموٍ، وليس معنى كلامي هذا أن الله تعالى هو الآخر في حالة ترقٍ وسمو، بل الله كامل من كل شيء سبحانه.. إذا الله تعالى من خلال هذا التنوع في الكتب السماوية التي جاء اختلافها اختلاف تنوع لا تضاد هو ليطلعنا الله تعالى أن حالة التشديد المطلق لا يصلح للبشرية، ولا التيسير المطلق يصلح للبشرية أيضاً.. بل إن التوسط في الأمور عليه قوام الناس ومن ثم أتى الله تعالى بوحيه الطاهر القرآن الكريم ذاك المنهج الذي يتسم بطابع الوسطية، وليس هذا فحسب فكتاب الله القرآن الكريم فيه تمام الكم والمعنى قال تعالى في وحيه الطاهر: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة. إذا القرآن الكريم قد هيمن على الكتب التي سبقته هيمنة تمام في الكم والكيف قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} (48) سورة المائدة.
إذا فوحي الله الطاهر القرآن الكريم هو طوق النجاة ونبراس طريق، وهداية حائر، ومضامينه وعطاياه الفكرية تتجدد من يوم إلى يوم، ومن خلال هذا التطواف في أهمية القرآن الكريم بالنسبة للأمة الإسلامية خاصة وللبشرية جمعاء فإنه قفز إلى ذهني شيء هام لا يحسن بي إغفاله في هذا الصدد وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلعنا على كنن ومضامين ما بين دفتي هذا المصحف إطلاع كامل لسبب جوهري ألا وهو: لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر للصحابة الكرام مضامين القرآن الكريم على وقتهم تفسيراً يماشي عقولهم آنذاك لقلنا نحن اللاحقون إن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره تفسيراً سطحياً لا يتماشى مع معطيات العصر الحاضر وما بعده.. ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر للصحابة الكرام مضامين القرآن الكريم تفسيراً يخدم كل عصر وكل معطيات الحياة -تلك المعطيات التي لم يشهدها الصحابة بعد لصُدِم الصحابة الكرام حينها بمثل هذا التفسير، لأن في القرآن الكريم معطيات حضارية لم تستبن لهم آنذاك.
إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم ترك لنا تفسير القرآن الكريم تفسره لنا معطيات الزمان والمكان التي نشهدها اليوم وستشهدها الأجيال اللاحقة.. فالقرآن الكريم دليل بين لكل من دب على هذه البسيطة، ولا نشك لحظة واحدة أن الله سيُري البشرية جمعاء أنه واحد لا إله معه عبر معطيات الزمان والمكان السابقة واللاحقة قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت، ومما يؤسف له أن القرآن الكريم الذي بين أيدينا اعتقدنا أنه كتاب يهدينا إلى جنان الخلد فحسب، فكم مرة سمعت الداعي يدعو فيقول: (اللهم اجعل القرآن سائقنا ودليلنا إلى جناتك جنات النعيم) وإن كان هذا الدعاء صحيحاً فهناك شيء مثله ألا وهو أن القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو سائقنا ودليلنا إلى جنان الدنيا كما هو سائقنا إلى جنان الآخرة.. فمن أخذ بمعطياته ومضامينه الفكرية دله على تلك الجنان معاً قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (46) سورة الرحمن.
إننا اليوم في طول البلاد الإسلامية وعرضها يوجد هوة عميقة بين فهمنا للقرآن الكريم ومعطيات الحضارة، فإني ألحظ أن هناك انفكاكا لا يمكن إغفاله بين رجال الدين ورجال العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، فكل في وادٍ يهيم، فلا أكاد ألمس أن هناك تماسا مع بعضهم البعض، فالذين نذروا أنفسهم لدراسة القرآن الكريم دراسة تفضي بصاحبها إلى فهم معطيات القرآن الكريم وأنه مسلك يُفضي بصاحبه إلى بغيته الدينية مقتوا معطيات الحضارة، وأن الدارس للقرآن الكريم على أنه كتاب علم يفضي بدارسه إلى معطيات الحضارة نسي نصيبه من كون القرآن الكريم منهج حياة يدلف به إلى عمارة حياته في الحياة الآخرة.. إذاً فإن هذا الانفكاك وعدم تماس بعضهم البعض في فهم معطيات القرآن الكريم تأتي لدينا فريقان.. فريق لا يعلم من القرآن إلا أنه كتاب دين يفضي بصاحبه إلى سعادة الدار الآخرة، وفريق آخر عكف على دراسة القرآن الكريم على أنه كتاب دنيا يفضي به إلى سعادة الدنيا.. إن هذا الانفصام بين رجال الدين ورجال العلوم الأخرى في فهم معطيات القرآن الكريم ومضامينه الفكرية جعلنا لا نقطف ثمار ونتائج بغية القرآن الكريم التي أرشدنا الله إليها قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص.. إذاً إن للقرآن الكريم توقيعات وعطاءات ربانية تدلف بنا إلى ساحة الدنيا وساحة الآخرة معاً.. إذاً نحن المسلمين اليوم وفي الغد مطالبين بأن نفهم هذا القرآن على أنه منهج دين ودنيا ليس هذا فحسب.. بل إنه لزاماً علينا نحن المسلمين أن نقدمه للعالم أجمع على أنه كتاب أنيطت به جميع أغراض الحياة، وأنه فيه ذكر لنا ولغيرنا إلا أننا مطالبون بإيصال فهم محتوياته وفحواه إلى جميع الأمم والشعوب قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (44) سورة الزخرف.
إذاً إن الأمة الإسلامية تلك الأمة التي عرفت ما في القرآن الكريم من مضامين وعطاءات ربانية هي مسؤولة عن تبليغ هذه العطاءات للأمم والشعوب أمام الله تعالى.. وقبل ذلك إن في هذا القرآن الكريم ذكر لنا خاص دون غيرنا قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10) سورة الأنبياء.. إذا أختصر مقالي بقوله تعالى: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} لا أقول القوة المادية بل القوة المعنوية.