قصيدة يتناقلها القليل من كبار السن في مراكش، صاغها شاعر مراكش المشهور، محمد بن إبراهيم رحمه الله، والملقب بشاعر الحمراء (الحمراء كناية لمدينة مراكش بمبانيها ذات اللون الأحمر). وهي قصيدة لا توجد في ديوانه المسمى «ديوان شاعر الحمراء» والذي ضبطه وقام بالتعليق عليه صديقنا العزيز الأديب الدكتور أحمد شوقي بنبين رئيس الخزانة الملكية بالمملكة المغربية الشقيقة، وقد خشي زميلنا وصديقنا العزيز سعادة السفير مكي كوان، المتبحر في اللغة العربية ومدير الشؤون الإسلامية والعربية بوزارة الخارجية والتعاون المغربية، ضياعها فسطرها، وتكرم بتزويدي بنسخة منها.
والقصيدة صاغها الشاعر رداً على الشاعر العربي المصري الكبير أحمد شوقي عند زيارته لمراكش عندما نظم مسرحية، على شكل قصيدة، وقام عدد من الطلبة الفاسيين بمراكش بتمثيل المسرحية وفيها نيل من القائد المرابطي المشهور يوسف بن تاشفين وحط من قدره.
من المفيد أن نعرّف القارئ الكريم بيوسف بن تاشفين، فهو قائد مسلم تقي ورع ينتمي إلى قبيلة لمتونة البربرية، وهي إحدى بطون قبيلة صنهاجة، والقاطنون في المغرب العربي، والذين يعتمدون في غذائهم على لحم الإبل ولبنها ويعرفون بالملثمين. وعندما أفضت رئاسة قبيلتهم إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي، خرج مع بعض أعوانه لقضاء بعض مهامه، فلقوا في منصرفهم شيخ المذهب المالكي أبا عمران الفارسي، فطلب منه يحيى إرسال أحد تلاميذه لتثقيفهم في الدين، فأرسل معهم عبدالله بن ياسين، وكان يحيى الكندالي مطيعاً لعبدالله بن ياسين الورع التقي شديدة الغيرة على دينه، لكنه كان شديد الشغف بالنساء، يتزوج في كل شهر عدداً منهن ويطلقهن، وسمي أتباعه المرابطين، وبعد وفاة يحيى بن إبراهيم تولى الإمارة يحيى بن عمر اللمتوني، وتولى القيادة الحربية عبدالله بن ياسين، وبعد وفاته، تولى القيادة، أبو بكر اللمتوني، واختار ابن عمه يوسف بن تاشفين لمؤازرته، فولاه المغرب بينما تولى أمور الصحراء، وتقول الروايات إن يوسف بن تاشفين تقي، ورع، متدين، متواضع تواضعاً جماً، متقشف يرتدي الصوف طول حياته، ولا يأكل سوى لحم الإبل والشعير، وهو جواد، كريم، عادل، رفيق، حليم.
وقد استطاع السيطرة على المغرب والولوج إلى الأندلس، ومقارعة الخصوم، وهو قائد معركة «الزلاقة» المشهورة التي انتصر فيها الجيش الإسلامي على الجيش القشتالي الإسباني انتصاراً مؤزراً حتى قتل من القشتاليين نحو ثمانين ألف فارس ومائتا ألف رجل.
ويوسف بن تاشفين هو الذي قضى على ملوك الطوائف وأخذ أشهر ملوكهم أسيراً وهو الشاعر والأديب المعتمد بن عباد، الذي كان بلاطه جامعة للشعراء والأدباء والذي لم يجتمع عند غيره قبل ولا بعد عدداً ونوعاً مثلهم، ولهذا فإن الشاعر أحمد شوقي، قد أخذته الحمية الأدبية للمعتمد بن عباد فصب جام غضبه على يوسف بن تاشفين آخذاً معيار الأدب والشعر الذي هو بضاعته مقياساً للحكم، ناسياً أو متناسياً أن المعتمد بن عباد مع كرمه المفرط، وشعره الرائق، وأدبه الجم، كاد أن يذهب بريح الأندلس في زمانه، لكثرة مجونه ولهوه، حتى إنه قد ترك في قصره بعد أسره أكثر من ثمانمائة بين حرة وجارية.
وشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم وهو من مراكش استنصر ليوسف بن تاشفين، لأنه قائد مراكشي، وإلا فإن شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم لم يكن في سلوكه الكثير من بضاعة يوسف بن تاشفين رحم الله الجميع.
ومن تلك القصيدة أبيات، قال فيها:
أتاك كما تأتي اللآلئ في العقد
نوابغ فاس كل ند إلى ند
وما منهم إلا طموح إلى العلا
سبوق إلى الغايات مستوصل الكد
واسترسل إلى أن قال:
أتيتمُ بالتمثيل أكبر مرشد
وليس سوى التمثيل يهدي إلى الرشد
أأحمد شوقي للقوافي رجالها
فما أنت للتاريخ ذو الأخذ والرد
وهو بهذا يؤكد على الشاعر أحمد شوقي ألا يتجاوز حدوده فيقفز إلى التاريخ، وهو ليس له بميدان، وإنما ميدانه الشعر وهو أجدى بأن يقف عنده ولا يتجاوزه إلى ما لا يحسن فيه صناعة، ثم واصل في قصيدته مادحاً يوسف بن تاشفين ليقول:
أفاروق أفريقيا امتشقت مهنداً
وقبلته شوقاً وطوحت بالغمد
ورحت به ركضاً بأندلس بها
تصد ذوي الأغراض عن سيء القصد
فأبقيت للإسلام سابق مجده
ولولاك أضحى الدين مفتقد المجد
ولعل حكم شاعر الحمراء على مسرحية أحمد شوقي الشعرية يكمن في البيتين التاليين:
نضحي بعباد وآخر كابنه
ومثله من لا يفيد ولا يجدي
لتبكوا معي ذاك العظيم وفقده
ولا تتركوني أبكيه بينكم وحدي
هكذا كانت رؤيته، فقد غلّب الصبر ومجالدة الظلوم، على الأدب والشعر ومسايرة الخصوم، مع أنه في سيرته لم يكن كذلك.
هذه نادرة سطرتها فربما تفقد لو لم تسطر، وهي لا تخلو من العبر، والتاريخ إما أن يكون للاستمتاع أو للاعتبار، والكيس من أحسن الاختيار وكانت موعظته في إدراك أخطاء من سبقه.